مازلنا إذن فى الجو الطبى العام الذى يضوع بروائح (السافلون) والمطهرات وانفلونزا الخنازير. فى البداية أقدم هذا التعليق القصير الذى أرسله أ. د (حمدى صدقى) أستاذ مساعد الجراحة بطب طنطا، وهو يعلق على أو يستكمل معلومات المقال السابق الذى تحدثت فيه عن مسلسل موت الأطباء بمرض تنفسى غامض، وهو هنا يناقش نقطة (إذا مرض الطبيب فأين يعالج ؟):
«قرأت مقالك (هبوط حاد) وهو ما أوحى لى بأن أكتب اليك. منذ خمس سنوات توفى زميل لنا مدرس بقسم الجراحة اسمه د.محمد الطباخ–رحمه الله- وصل المستشفى الجامعى فى حالة تعفن دموى لم نعرف مصدره، وطبعا لأن مستشفى الجامعة وطنطا كلها مفيهاش عناية مركزة حقيقية تم تحويلة لقصر العينى الفرنساوى وراح ملقاش مكان فى العناية وطبعا رفضوا استقباله، وفى طرق عودته توفى مريض بعنايه قصر العينى والمستشفى اتصلت بهم، فرجع القصر العينى ودخل العناية ليموت فى نفس الليلة. نفس المأساة تكررت يوم الخميس الماضى 6-2-2014 مع زميل اخر اسمه د. عمرو الشناوى -رحمه الله- مدرس م. بقسم الجراحة أيضًا كان عمل زرع نخاع من 4 شهور ونجح الزرع لكنه مات من نزف شديد فى القناة الهضمية والشرج. ولأن طنطا كلها برضه مفيهاش عناية مركزة واحدة كويسه ولأننا فشلنا نجيب له لا دكتور أمراض دم ولا دكتور عنايه ولا دكتور مناظير قناة هضمية ولا لاقيين منتجات دم كافيه وطبعا مفيش امكانية لعمل حقن بالصبغة لشرايين المساريقا، نقلناه معهد ناصر اللى عمل فيه الزرع ورغم الترتيب مع المعهد لكنه راح ملقاش مكان فى العنايه فراحوا القصر الفرنساوى ملقاش مكان، وفى الأخر توفى فى مستشفى خاص فى القاهرة»
هذا هو خطاب د. حمدى، وهو خطاب مرعب.. هنا نناقش نقطة اخرى غير المقال السابق. لا نتكلم عن عدوى تنفسية غامضة، بل نتكلم عن مصير الطبيب التعس إذا مرض، وهى ليست مشكلة خاصة بالأطباء فقط. فإذا كان هذا يحدث للطبيب فماذا يحدث للمريض الفقير العادى؟.. لو كان الخباز لا يتذوق الخبز، فماذا عن عامة الشعب؟ ليرحم الله د. محمد الطباخ ود. عمرو الشناوى اللذين دفعا ثمن تراكم أخطاء ثلاثين عامًا.
ننتقل الآن إلى موضوع طبى آخر، هو أن وزارة الصحة أغلقت مركزًا شهيرًا لعلاج الأعشاب وأحالت مالكه -وهو نجم فضائى ساطع- إلى النيابة العامة. هذه خطوة تأخرت كثيرًا جدًا لكنها تمت على الأقل. لن أذكر اسم المعالج فليس غرضى أن أشهر به، ولكن أشهر بنمط سلوكى عام، وأعرف أن النصاب التالى يستعد ليظهر لنا خلال عام فلن تحدث الأسماء فارقًا.
الحقيقة أن هؤلاء المعالجين على غير أساس علمى يتكاثرون كالبراغيث.. تخلص من واحد فيظهر واحد آخر، وفى كل مرة يلدغ الناس من ذات الجحر ألف مرة. شعار «رزق الهبل على المجانين» قد استوعبه هؤلاء القوم حتى النخاع، وهو مصدر رزقهم وحياتهم وكل مليم فى جيوبهم. تذكرون بالطبع ذلك المدلك الذى زعم منذ أعوام أنه خبير فى الطب البديل، وفضحه د. خالد منتصر على الفضائيات.. انتهت هذه الهوجة بعد ما جمع الرجل عدة ملايين طبعًا. ثم من جديد يظهر معالج آخر ويجمع ملايين أخرى ويصير نجم الفضائيات الجديد، وله مراكز فى كل الجمهورية. ليس العيب فيهم.. بل فينا.. فنحن لا نملك أى نوع من الذاكرة. المعالج الأخير بائع الوهم هو صيدلى يقوم بالكشف على المرضى والعلاج بالحجامة والأعشاب. تقول الوزارة: «بتفتيش مقر الشركة تبين وجود تدريب لبعض العاملين بالشركة على الحجامة مقابل راتب قدره 850 جنيها، وهو ما يخالف القانون رقم 415 لسنة 1954 الخاص بتنظيم مزاولة مهنة الطب البشرى، كما عثر على «كول سنتر» به حوالى 50 فتاة تقوم بالرد على المتصلين وتحديد المندوب الذى يقوم بتوصيل الأعشاب والرد على الاستفسارات الطبية. كما رصدت الإدارة المركزية للمؤسسات العلاجية غير الحكومية والترخيص عدد من المخالفات لـ(.....)، مثل ظهوره بالإعلام دون الحصول على موافقة وزارة الصحة طبقا للقانون رقم 153 لسنة 2004، إضافة إلى وجود العديد من المواطنين داخل مركزه للعلاج بالحجامة والأعشاب، ووصفه وبيعه مستحضرات طبية مخالفا بذلك القانون رقم 415 لسنة 1954 الخاص بمزاولة مهنة الطب البشرى وقانون الصيدلة رقم 127 لسنة 1955». على كل حال هناك تاريخ طويل من ملاحقات وزارة الصحة لهذا الطبيب، وفى كل مرة يعود لممارسة المهنة، ويقال إنه (مسنود) مثل توفيق عكاشة بالضبط.
التحق الرجل بإحدى كليات الصيدلة الخاصة أولاً بمصاريف 35 ألفًا فى السنة، وفيما بعد زعم أنه متخصص فى الصيدلة الإكلينيكية وأنه حصل على علامة الأيزو. هل هناك علامة أيزو للعلاج بالأعشاب؟
الرجل له شركة أدوية كبرى فى 6 أكتوبر، كأنه شركة فايتزر أو روش أو ميرك مثلاً.. لاحظ أحد الصيادلة الذين عملوا معه واستقالوا أن كل العاملين فى مركز الاتصالات كانوا يردون على الهاتف على أنهم الطبيب نفسه. معظم العاملين فى الشركة هم من أقارب الطبيب وبلدياته ليضمن ولاءهم. ليس هذا فحسب، فالصيدلى المذكور يطلب من المريض أن يحضر الأبحاث والأشعات.. هذا ليس من حقه قانونًا، ويحصل على مبلغ مالى (200 جنيه) مقابل الفحص.قال هذا الشاهد إن الرجل كان يضع أى اعشاب فى كيس ويبيعها بـ 150 إلى 350 جنيهًا.. ثم تأتى عملية نصب أخرى ممن يتلقى الطلبية، فهو يبتاع أى أعشاب من العطار ثم يبيعها للزبون على أنها الطلب الذى اتصل من أجله.. أى بـ 350 جنيهًا. أى أن هناك من نصب على النصاب. كل الخلطات السرية تتم تحت السلم. على كل حال يمكننا تخمين نوعية هذه الخلطات. دائمًا هى تحوى كمية هائلة من أقراص الكورتيزون المسحوقة.. أقوى مسكن للالتهابات وأخطر سم عرفه علم الدواء. الكورتيزون قادر على عمل المعجزات، ولكن ما هى التكلفة فى غياب طبيب يعرف ما يفعله ؟. لابد أن تحوى الخلطة الكثير من العناصر المهيجة موضعيًا Counterirritant.. اى أنها تحدث تهيجًا فيقل الألم، وهى حيلة قديمة كان جدك يمارسها عندما يستخدم كئوس الهواء الساخن، وكان أبوك يستخدمها عندما يدهن (الفيكس). الخلاصة: هناك راحة لكن لا شفاء.
قريبى جرب التعامل مع هذا الطبيب فعرف أن الكشف ثمنه 200 جنيه أما ثمن المرهم الذى سيدهن به ركبته 500 جنيه. برغم هذا اشترى المرهم فعلاً، وأعلن فى فخر أن الشفاء تم والحمدلله وأنه يشعر براحة لا شك فيها.. بعد أسبوع سألنى عن طبيب جيد يحسن شفاء خشونة الركبتين!. قلت له فى غيظ: «ألم تشف بعد بالأعشاب والحمدلله؟». لم يتكلم.. لا أحد يعترف بأنه نصب عليه أبدًا. هذه قاعدة مهمة.
كلما تم القبض على واحد من هؤلاء تطوع عدد من القراء بقول إنهم ذهبوا لهم وظفروا بالشفاء. لماذا تحاربون النجاح أيها الحاقدون؟.. هناك نمط آخر يردد: لو كان المرضى قد ظفروا بالشفاء مع الطب لما ذهبوا له. وهذا منطق غريب.. كأنه لابد من إنفاق كم معين من المال.. إن لم تنفقه على الطب الفاشل فلتذهب لتنفقه لدى النصابين. إذن لماذا لا تبقى مالك معك؟
للحديث بقية طبعًا، لأننى عندما أبدأ الكلام عن الطب المزيف أجد صعوبة فى التوقف.