تصريحات بوتين بشأن ترشح السيسى للرئاسة تعكس مدى أهمية مصر كقوة إقليمية ودولية
نتائج زيارة السيسى لروسيا أكدت أن مصر ليست ساحة صراع بين روسيا وأمريكا
صحيفة «فيدوموستى» الروسية نقلت أمس روايات قديمة بأن المباحثات بين البلدين تركزت فى الشأن العسكرى فقط
فى مصر صراعات سياسية غير ناضجة لا تميز بين المصالح الوطنية وبين الرغبة فى الوصول إلى السلطة بأى ثمن
القاهرة وموسكو لم تعلنا رسميًّا أى اتفاقيات.. لكن الكرة فى ملعب مصر للاستفادة من مواقف روسيا الإقليمية والدولية
الحديث الآن لا يدور حول تقسيم حاد وعنيف لمناطق نفوذ أو صراع أيديولوجيات، بل عن مصالح كبرى فى مجالات، على رأسها الاقتصاد والطاقة والأمن. قد تكون هناك استقطابات دبلوماسية وجيوسياسية تُخَدِّم على المجالات السابقة، لكنها فى كل الأحوال لا يمكن أن تؤدى إلى احتكاكات أو صدامات عسكرية. فروسيا كما ذكرنا سابقا ليست الاتحاد السوفيتى. وروسيا دولة كبرى بكل المعايير الاقتصادية والسياسية والأمنية تنافس كل القوى الكبرى الأخرى، ولا مجال هنا للأيديولوجيا أو المثاليات والأفكار الكبرى المجردة. إذ أن المصالح هى قاعدة الانطلاق فى التحركات والتوجهات الاقتصادية والأمنية والسياسية.
إذا نظرنا إلى الجولة الثانية من لقاءات (٢+٢) التى جرت فى موسكو يوم ١٣ فبراير ٢٠١٤، سنجدها استكمالا للجولة الأولى التى جرت فى القاهرة يوم ١٤ نوفمبر ٢٠١٣، حيث تمكن الطرفان المصرى والروسى آنذاك من تحديد المهمات الأولية فى التعاون المتبادل فى المجالين التجارى -الاقتصادى والعسكرى- والتقنى، وأكدا عزمهما تعزيز الشراكة بين القاهرة وموسكو لحل القضايا الملحة على الصعيدين الدولى والإقليمى ومواصلة تعميق التعاون المصرى - الروسى المتعدد الاتجاهات.
الجولة الثانية من (٢+٢) تجعل العلاقات المصرية - الروسية فى اتجاهين (موسكو - القاهرة - موسكو)، حيث من الطبيعى أن يتم تحديد أطر واتجاهات التعاون المستقبلى كما تقضى مصالح البلدين. غير أن التحذير هنا أمر ضرورى، إذ لا ينبغى إطلاقا الاستهانة بزخم تلك العلاقات الجديدة وحصرها فى الماضى البعيد والتغنى بأمجاد سابقة، لأننا سنجد من يغنى معنا على نفس الإيقاع من الطرف الآخر. كما لا ينبغى أيضا قصر العلاقات المصرية - الروسية على صفقات السلاح، وهو الأمر الذى يمكنه أن يبخس قيمة هذه العلاقات، لأن جولتى (٢+٢) نجحتا فى تغطية جانب كبير من المجالات السياسية والاقتصادية والطاقة والتكنولوجيا الحديثة. إضافة إلى المجال العسكرى - التقنى.
لقد تصور كثيرون أن الجولة الثانية من (٢+٢) فى موسكو انتهت ببيان ختامى بعد اللقاء البروتوكولى بين الوزراء الأربعة، ثم المؤتمر الصحفى الذى عقده وزيرا خارجية مصر وروسيا نبيل فهمى وسيرجى لافروف. واعتبر البعض أن استقبال بوتين للمشير عبد الفتاح السيسى ونبيل فهمى سيكون استقبالا بروتوكوليا. لكن الرئيس الروسى فجَّر قنبلة سياسية من العيار الثقيل حيث تحدث عن أن الاستقرار فى المنطقة مرتبط بدرجة كبيرة باستقرار مصر، ثم وصف قرار السيسى الترشح للرئاسة بالقرار المسؤول متمنيا له التوفيق. بل وأعرب عن ثقته بأن السيسى بخبرته الكبيرة سيتمكن من حشد أنصاره وإرساء العلاقات مع كل أطياف المجتمع المصرى فى الوقت نفسه.
إن إشارات وتلميحات بوتين، وما تتضمنه هذه العبارات القصيرة المقتضبة، تميز الساسة الكبار وتعكس مدى الحرص على الشركاء وعلى المصالح المشتركة. فمصر كقوة إقليمية حاضرة فى ذهن بوتين، مصر تلك القوة الإقليمية بحاجة إلى قبضة قوية فى ظل الفوضى العارمة التى تجتاحها والمنعطف الحاد الذى تمر به. ولم ينسَ بوتين أن يمنح ضيفه واجب الضيافة، معربا عن ثقته بقدرته على ضبط الأمور. بينما تضمنت العبارة الأخيرة رؤية موسكو لشكل المشهد السياسى الداخلى فى مصر، حيث من الطبيعى أن يحشد السيسى أنصاره لا للصراع مع هذا الطيف أو ذاك، بل لإرساء علاقات متحضرة مع كل أطياف المجتمع المصرى.
من الممكن استقبال هذه الإشارات كرسائل، وربما كشروط للتعاون. لكنها فى كل الأحوال تعكس مدى نجاح جولتى اللقاء، وحرص روسيا على الشريك الجديد - القديم الذى يرغب فى التعامل معها على أسس واضحة وشفافة. وبالتالى على الشريك -مصر- أن يكون منتبها جدا للمفاصل الأساسية التى لا تمت بأى صلة للماضى مهما كان جميلا. فالمشاريع الكبرى لا تنتهى.
يبدو أن تجربة روسيا كانت حاضرة فى كلمات بوتين. فبعد انهيار التجربة السوفييتية، نشب الصراع بين الشيوعيين وبين مجموعة الليبراليين الجدد، وحسمه بوريس يلتسين لصالح الفصيل الأخير الذى كاد أن يبيع روسيا دون أى مقابل. ثم دخل حربين شيشانيتين أسهم الغرب والشرق فى تأجيجهما ضد السلطة المركزية فى موسكو، على أمل تفتيت روسيا بعد تفتيت الاتحاد السوفييتى وسحق ما كان يسمى بحلف وارسو. وجاء بوتين ليواجه خرابا حقيقيا على كل المستويات وفى جميع مفاصل الدولة فى عام ٢٠٠٠. إضافة إلى المفاجآت العنيفة التى غطت فترة الحكم الأولى له من تفجيرات للمبانى السكنية وقتل الأطفال فى المدارس والمسارح لانهيار صورة روسيا تماما أمام أنظار العالم كله، بينما كانت أوروبا والولايات المتحدة تتغنى بالحرية والديمقراطية التى حملها يلتسين والليبراليون الجدد للشعب الروسى!
مثل هذه التجربة جعلت بوتين يتحدث بذلك الاقتضاب والحسم. بينما رد السيسى فى نفس الاتجاه بوضوح، ملخصا أن الإرهاب فى مصر لا يهدد الدولة وحدها، بل يشكل خطرًا على المنطقة بأكملها، ومؤكدا أن القوات المسلحة المصرية قادرة على ضمان الأمن فى البلاد. ولم ينس السيسى أن يشير إلى أن «المجتمع المصرى يسعى للتطور البناء وتعزيز الأمن، باعتبار أن هذه المهمة تكتسب أهمية كبرى ليس بالنسبة للبلاد فحسب، بل للمنطقة بأكملها». وأشار إلى ما يجرى من أحداث فى ليبيا وسوريا، داعيا لاتخاذ جهود جماعية من أجل التصدى لتحديات الإرهاب.
لقد أنهت الجولة الثانية من (٢+٢) على كل المهاترات الصغيرة بشأن تحويل مصر إلى جمهورية من جمهوريات الموز وساحة من ساحات الصراع بين روسيا والولايات المتحدة. لا حديث عن صفقات سلاح وتسليح ومنظومات صاروخية ضاربة. كل ما فى الأمر، أن «الدولتين تعدان مجموعة من الوثائق للتعاون فى المجال العسكرى - التقنى». هكذا يمكن أن ندرك أن موسكو نفسها لا تريد أن تدخل فى حرب مع واشنطن فى مصر. ولا تريد أيضا أن تخل بالتوازن الاستراتيجى فى المنطقة. كما أن صفقات السلاح بالذات لا يجرى الحديث عنها هكذا على المقاهى وفى المؤتمرات الصحفية. ومصر وروسيا ليستا استثناءً! ولكل حادث حديث.. لكن المدهش أن صحيفة «فيدوموستى» الروسية فى عددها الصادر الجمعة 14 فبراير، عادت مجددا لتنقل نفس الروايات القديمة (وعن مصادر فى الصناعة الحربية الروسية) أن المحادثات المصرية - الروسية التى جرت فى موسكو شهدت التوقيع بالأحرف الأولى على عقود بقيمة تتجاوز 3 مليارات دولار. وأوضحت أن الحديث يدور عن عقود لشراء مقاتلات من طراز «ميج-29 إم»، وأنظمة دفاع جوى من عدة طرازات، ومروحيات «مى-35» ومنظومات صاروخية ساحلية مضادة للسفن، ومختلف أنواع الذخائر والأسلحة الخفيفة. ثم عادت لتشير إلى أن الطرفين لم يعلنا رسميا عن أى اتفاقيات معينة فى ختام المحادثات. وبعد ذلك ذكرت ما جرى فى واقع الأمر، مشيرة إلى أن لافروف قال إن «وزيرى الدفاع اتفاقا على تسريع إعداد الوثائق التى من شأنها دفع التعاون العسكرى والعسكرى التقنى قدما الى الأمام». الطريف هنا هو أن الصحيفة الروسية أشارات إلى أنها نقلت عن وسائل إعلام مصرية أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعهدتا بدفع قيمة الأسلحة الروسية لمصر. وللإمعان فى الدهشة والإدهاش، تعود وسائل الإعلام المصرية لتنقل عن نفس الصحيفة. وهكذا تدور الأمور وتُدار، وكل التصريحات على ألسنة مصادر عسكرية وأمنية وسيادية!!
قد تكون مصر فى العقدين الأخيرين شارفت على الانهيار الحقيقى بفعل سياسات غير مسؤولة واستقطابات اجتماعية وسياسية غير محمودة العواقب. ومن الصعب أن نتصور إمكانية علاجها بضربة واحدة خلال نصف ساعة. وبالتالى، لا يمكن أن نستبعد وجود مجموعات مصالح قوية وقادرة وغنية، سواء من بقايا القريبين من مبارك أو من ابنه جمال. ولا يمكن أن نستبعد وجود تلك المجموعات فى صفوف ما يسمى بالإسلام السياسى، خصوصا بعد أن تمكن الإخوان المسلمون من حكم مصر لمدة عام كامل يعادل فى انهيارة ٢٠ عاما من حكم مبارك. هكذا، يجرى الصراع الآن، ومن ضمنه ضرب أى علاقات مستقبلية لمصر مع أى شريك جديد. والوصول بالأمور إلى تحويل البلاد إلى ساحة للصراع الدولى. وهنا لا يمكن اتهام أى من تلك القوى والفصائل بالخيانة أو العمالة، كل ما هنالك أنها قوى غير ناضجة ولا تعرف الفرق بين خصام الأطفال وبين منافسة الكبار. فالصراعات السياسية غير ناضجة للحد الذى نميز فيه بين المصالح الوطنية والقومية وبين الرغبة فى الوصول إلى السلطة بأى ثمن ومضاعفة الثروات والنفوذ. بل وتحول الأمر إلى شكل من أشكال شخصنة الصراعات.
وبالتالى، هناك مجموعات مصالح تسعى لتحويل مصر إلى ساحة للصراع بين موسكو وواشنطن. ومثل هذه المجموعات موجودة أيضا فى روسيا ولا تمل أو تكلَّ عن تصدير روايات حول مليارات وأسلحة ومنظومات وقاذفات. وإذا كانت الولايات المتحدة تفرض نفسها كليًّا على الشريك، فروسيا تمنح شركاءها هامشا للتنويع والتعددية فى العلاقات. وهذا لا ينفى إطلاقا أن موسكو تبحث عن مصالحها مثل أى دولة أخرى، وأن لها حسابات دقيقة فى القضايا الإقليمية والدولية، ولديها ملفاتها الخاصة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى. كل ذلك يخص روسيا ومصالحها وسياساتها الدولية. إذن، الكرة هنا فى ملعب مصر التى تستطيع أن تستفيد من مواقف روسيا الإقليمية والدولية، مثلما استفادت الهند وباكستان من صراعات الأقطاب فى سبعينيات القرن العشرين، ومثلما تستفيد إيران وتركيا فى الحقب الأخيرة. لأن سياسة الاستبدال والإحلال، هى سياسة قصيرة النظر، وقد جربتها مصر فى مطلع سبعينيات القرن العشرين. والمسألة الآن تكمن فى تحديد مصر لاحتياجاتها الحقيقية، وبلورة وصياغة دورها فى ضوء إمكانياتها الآنية، وآفاق تطوير تلك الإمكانيات بشكل واقعى ومحسوب وانطلاقا من مصالحها الوطنية، والوطنية فقط! هكذا تُدار الدول الكبرى والدول التى تحترم شعوبها!
إن المُبَشِّر فعليا فى اللقاءات المصرية - الروسية الأخيرة هو العلاقات الاقتصادية، إذ أكد بوتين أن لدى روسيا ومصر آفاق واعدة للتعاون فى «مشاريع ضخمة». وأعرب عن أمله فى عودة حجم التبادل التجارى إلى مستويات جديدة عند 5 مليارات دولار، وأن تستعيد مصر مكانتها السياحية بالنسبة للسياح الروس بعد أن تراجع عددهم خلال العام الماضى من 2.4 مليون سائح إلى 1.5 مليون فقط. وعموما فالطرفان ينتظران عقد اجتماع اللجنة الحكومية المصرية الروسية للتعاون الاقتصادى والتجارى فى نهاية مارس المقبل.