هذا جرس إنذار ينبهنا إلى ضرورة إنهاء الأوضاع الانتقالية التى نعيشها بأقصى سرعة، وحسم الأمور ليكون لدينا قيادة سياسية قادرة على التصدى للمشكلات والتحديات الهائلة، بعد الخروج من حالة العجز والبلادة السياسية التى نمر بها.
آخر جولات التفاوض مع إثيوبيا حول مشكلة السد فشلت كالعادة، لا تغيير فى المواقف، إثيوبيا تراوغ لكسب الوقت، ومصر تتمسك بحقوقها وتقدم الأدلة على المخاطر التى ستتعرض لها، وتحاول تقديم الحلول الفنية دون استجابة من الجانب الآخر الذى يرفض أيضًا الاحتكام إلى الخبرة الدولية، التى تحذر من الآثار السلبية للمشروع الإثيوبى.
استخدام مياه النيل فى الضغط على مصر كان مخططًا أمريكيًّا قديمًا بدأ بعد الفشل الأمريكى مع مصر فى الخمسينيات، ومع تأميم القناة وبناء السد العالى، العمل الأمريكى فى دول حوض النيل، ومعه الجهد الإسرائيلى، فشلا فى ذلك الوقت فى الإضرار بمصر التى كانت تقود حركة التحرر الوطنى وتنسج علاقات جيدة مع معظم القارة السمراء.
اختلف الأمر بعد ذلك، ابتعدت مصر عن عالمها الإفريقى، غاب دورها فى التعامل مع مشكلات القارة التى كانت تكافح لبناء نفسها بعد سنوات الاستعمار الطويلة، انسحبت مصر من إفريقيا كما انسحبت من عالمها العربى، بينما كانت كل دول العالم تتسابق لكى يكون لها دور فى القارة الواعدة، ولولا بقية من ذكريات زمن كانت مصر هى مركز حركات التحرر الإفريقية وسندها الأكبر، لكانت خسارتنا أفدح.
طوال سنوات لم ينقطع الصراخ بضرورة الالتفات إلى مصالحنا مع إفريقيا. حاول بطرس غالى ذات يوم إنقاذ الموقف بمبادرة دول حوض النيل، لكن السياسة كانت فى وادٍ آخر، طالبنا بمجلس أعلى لإدارة الشأن الإفريقى ولم يلتفت أحد، كان غريبًا أن يكون لدينا رجل فى قامة محمد فايق بكل خبراته وعلاقاته مع قادة إفريقيا، ثم نترك الشأن الإفريقى لموظفين درجة ثالثة فى وزارات يديرها وزراء من الدرجة الرابعة!!
بعد ثورة يناير، تصورنا أنه سيتم تصحيح المسار على وجه السرعة، وأن ملف مياه النيل ستكون له الأولوية، لكن اضطراب الفترة الانتقالية، ثم حكم الإخوان انتهت بفضيحة مناقشة قضية السد الإثيوبى على الهواء، الذى استغلته إثيوبيا أسوأ استغلال، بينما كان بالنسبة للمصريين تأكيدًا لحقيقة أن عار حكم الإخوان لا بد أن يزول قبل أن يصل بمصر إلى قلب الهاوية.
الآن يتم استغلال اللحظة المضطربة التى تمر بها مصر للمساس بحقوقها التاريخية فى مياه النيل، رغم عدم كفايتها لاحتياجات مصر. تمضى إثيوبيا فى محاولة كسب الوقت لتستمر فى بناء السد، تختلف المواقف مع السودان الشقيقة، بينما تتحول دول حوض النيل إلى مساحة مفتوحة لأطراف دولية وإقليمية تحاول الإساءة لعلاقات مصر مع دول الحوض، وتعمل على حصار مصر والإضرار بمصالحها. وإذا كانت تركيا قد وصلت هناك لتواصل دورها المعادى لنا، فقد سبقتها إيران وإسرائيل.. وبالطبع أمريكا لا تكتفى بذلك، بل تواصل تحريض دول إفريقيا على ثورة 30 يونيو، مستغلة مخاوف الدول الإفريقية التى ورثتها من حقبة «الانقلابات» التى كانت تدبرها الأطراف الدولية، والتى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بثورة شعب مصر فى 30 يونيو، ولا بجيش مصر الذى لم يكن له يومًا ولاء إلا لمصر وشعبها.
الموقف خطير لكن الحلول ممكنة بشرط أن تعود مصر إلى موقف الفعل، وأن تعرف كيف تتعامل مع هذا الملف وغيره من الملفات الخطيرة، وهنا ينبغى الوقوف أمام نقطتين أساسيتين:
- أن تعرف الدول التى تدعم الموقف الإثيوبى أو تستغله ضد مصر أن المساس بحقوق مصر سوف يعنى تدمير مصالح هذه الدول فى المنطقة.
- وأن نخرج من الدائرة الضيقة للخلاف، لكى يكون واضحًا للعالم كله أن ما يتوفر لدول حوض النيل من مياه يكفى احتياجاتها ويزيد، وأن التعاون بين هذه الدول يحقق مصالحها جميعًا، وأن على دول العالم أن ترعى هذا التوجه وتدعمه.
ويبقى أن نتذكر أننا قبل أربعين عامًا، ومع انتصار أكتوبر، وزيادة عائدات البترول العربى، كان أمامنا مشروع طموح للتعاون الاقتصادى بين العرب وإفريقيا، وأن مصر تستطيع أن تكون الرابط الأساسى فى هذا المشروع الذى لم يكتمل مثل كل المشروعات العربية للأسف الشديد.
أعتقد أن الوقت مناسب لإعادة الحياة لمثل هذا المشروع، لكن قبل ذلك على مصر أن تستعيد عافيتها، وأن تنهى فترة الانتقال بسرعة، وأن تدرك أن مياه النيل مثل غيرها من الملفات الأساسية لا يمكن أن تدار بصغار الموظفين، أو بحكومات تعيش يومًا بيوم!!