منذ آلاف السنين سرت فى صحراء مصر أولى قطرات النيل، ونبتت أولى سنابل القمح، وولدت أول حضارة عرفها الإنسان، من ذلك الوقت لم تتغيّر أولويات الإنسان المصرى، جرعة من الماء ويا حبّذا لو كانت نقيّة، ورغيف من الخبز وليته يكون خاليًا من الحصى، مطلبان بسيطان ولكنهما أصبحا فى دائرة الخطر، مياه النيل تهددها عوائق السد الإثيوبى، والقمح تتضاءل كمياته المنتجة بسبب تناقص الرقعة الزراعية وتكاثر الأفواه، ونحن كشعب نبدو عاجزين، غير قادرين على الحفاظ على المواد الخام اللازمة لحياتنا، كعادتنا نسير عكس الزمن، تتوالد الأنفس ويقل الزاد، وحتى الفلاح المصرى، الذى كان خط دفاعنا الأخير، أصبح يعتمد على الفلاح الروسى أو الأمريكى ليبيع له كسرة خبزه، مضى الزمن الذى كنا فيه مخزن حبوب الإمبراطورية الرومانية، فعندما استعرت الخلافات بين كليوباترا ملكة مصر، وحبيبها أنطونيو من جانب، وأكتفيوس إمبراطور روما من جانب آخر، قام أنطونيو بقطع صادرات القمح وترك روما على حافة الجوع، وكان ذلك سببًا فى نشوب حرب ضارية انهزم فيها أنطونيو وانتحرت كليوباترا وتحوّلت مصر إلى ولاية رومانية، فقط حتى تضمن روما ورود القمح إليها بانتظام، تمامًا مثل ما يحدث فى حروب النفط، تحولت مصر الآن إلى أكبر بلد مستورد للقمح فى العالم، وأصبح الأمر مخجلًا وكارثيًّا وهى تبدّد عملتها الصعبة الشحيحة لشراء كميات غير محددة من القمح، وليتها تحسن استخدامها.
قفزت أرقام القمح الذى تستورده مصر من الخارج من أربعة إلى عشرة واثنى عشر مليون طن دفعة واحدة، وطرحت مصر مناقصة خيالية أشبه بالاستجداء تطلب فائض القمح من كل دول العالم، وارتفع استهلاكها إلى 14 طنًّا لا ننتج منها إلا أقل من أربعة ملايين طن، وليت الحكومة تبادر بشرائها من الفلاحين، ولكنها تدير ظهرها لهم، وتسعى لاستيراد كل الكمية من الخارج، ولا نعلم أيهما أقوى نصوص الدستور التى تحتم على الحكومة الشراء من الفلاحين أم أباطرة استيراد القمح وعملاؤهم فى الإدارة المصرية ؟!.
إنتاج القمح ليس بالمشكلة الضخمة، فهو من المحاصيل السهلة، وقد مارس الإنسان زراعته منذ آلاف السنين، وتركه العديد من المزارعين من أجل محاصيل أخرى أكثر ندرة، مشكلة القمح كانت فى كيفية رفع إنتاجية الفدان، وحلّت الهند هذه المشكلة باستخدام بذور معالجة تعطى عائدًا مضاعفًا، ومنذ سنوات طويلة لم نعد نسمع عن المجاعات التقليدية التى كانت تحدث فى الهند أو الصين، العديد من الدول الصغرى حققت اكتفاءً ذاتيًّا من غذائها، ونحن لا نزال على حافة المجاعة، تحت رحمة الظروف المناخية للدول التى نستورد منها، فالأمطار الغزيرة فى أوكرانيا وطبقات الثلوج فى روسيا تجعل السعر مضاعفًا، لأنها تحوّل القمح الصالح لتغذية الإنسان إلى علف للحيوان، وقد حرمتنا الطبيعة أكثر من مرة من استيراد القمح من هاتين السوقين رغم أنهما الأرخص والأقرب إلينا، وجعلتنا نلجأ إلى الأسواق البعيدة، مثل أمريكا وأستراليا، وعلى حد قول خبراء القمح فالأمر لا يحتاج إلى معجزة، يحتاج فقط إلى قدر من التفكير العلمى والتنظيم الإدارى، والوصول إلى الاكتفاء الذاتى يعتمد على ثلاثة عوامل ليس من الصعب توفيرها:
أولها: وجود بذور جيدة معالجة تنتج سنابل أكبر حجمًا، وهناك العديد من الأبحاث المتوفرة عالميًّا ومحليًّا، وقد قدّم الباحثون فى معهد القمح أكثر من سلالة حديثة، تتميّز بنقاوتها، وقدرتها على الاستنبات، وانخفاض نسبة الرطوبة فيها، إضافة إلى خلوّها من الأعشاب الجانبية، رغم هذه المميزات لم يتم الأخذ بها بسبب سطوة البيروقراطية، والعلاقة المحرمة بين المسؤولين فى وزارة الزراعة وأباطرة استيراد القمح، وهى علاقة مريبة ومتينة ما زالت قائمة حتى الآن، وما يتم استيراده من بذور رديئة ومسرطنة أحيانًا، تؤكد تحكم هؤلاء المستوردين فى الإنتاج المحلى أيضًا، ومهما تغيّر وزراء الزراعة، أو رفعوا شعارات الثورة فإن الفساد كامن فى الأجهزة البيروقراطية التى يمثّلونها.
ثانيها: حاجتنا إلى المزيد من الأراضى لنعوض ما فقدناه، لقد تآكلت أراضى الوادى القديم، ولكن زراعة القمح مفيدة للأراضى الجديدة قليلة الجودة، وهى تساعدنا على اقتحام زراعة الصحراء، وتمد الأرض بالعُقَد الآزوتية التى ترفع من درجة خصوبتها، لقد سمعنا الكثير عن أراضى الوادى الجديد، وعن مشروع توشكى الذى يقف عاجزًا، وعن استئجار أراضٍ فى السودان وأوغندا كما فعل العديد من الدول، ولكننا شعب لا يريد أن يناضل من أجل أن يحصل على غذائه، ويصر على أن يشتريه بالثمن الفادح رغم أننا مفلسون، لا تفعل إدارة البلاد غير زيادة عجزنا عن أى فعل إيجابى.
وثالثها: حاجتنا إلى المزيد من الصوامع لتخزين القمح، سواء كان محليًّا أو مستوردًا، الصوامع الموجودة لا تكفى إلا لتخزين 5 ملايين طن، ونعانى من فقدان أكثر من 30% من القمح بسبب سوء التخزين والتلف والسرقة والعصافير النهمة، نحن فى حاجة إلى إنشاء 150 صومعة جديدة، ولعل الحكومة الحالية القصيرة العمر هى أول من أحست بفداحة هذه المشكلة وشرعت بالفعل فى بناء 50 صومعة فى أكثر من مدينة، رقم متواضع لا يتجاوز ثلث ما نحتاج إليه، ولكنها خطوة إيجابية ضخمة فى حل مشكلة مستعصية، لقد شاهدنا افتتاح إحدى الصوامع على شاشات التليفزيون، ومنذ عدة شهور لم نسمع شيئًا، أرجو أن يكون المشروع ما زال متواصلًا لأنه لو توقّف هو أيضًا فسيدخلنا فى مرحلة من اليأس العميق.
أهم الأسباب التى قادتنا إلى مأزق الوقوف على حافة الجوع هى مافيا أباطرة القمح، مجوعة من التجار، أسماؤهم معروفة ومحدّدة، نشؤوا وانتشروا وأمسكوا بناصية الأمور منذ عهد الرئيس السابق مبارك، وزادت من سطوتهم وتحكمهم مجموعة من وزراء الزراعة والتموين الفاسدين الذين تركوا لهم الحبل على الغارب وساعدوهم على نهب مليارات الحكومة، واستيراد أحقر أنواع القمح وأسوأها، وهناك مافيا موازية لهم فى تجارة اللحوم وبقية المنتجات الغذائية، وخلفهم عصابات من الموظفين الحكوميين على استعداد لوضع أختام النسر على أى سلعة مهما بلغت رداءتها ما داموا يقبضون المعلوم، وهو جزء من مستنقع الفساد التى تغرق فيه الإدارة المصرية.
إننا نقف الآن على مفترق طريق، ننتظر رئيسًا جديدًا وحكومة جديدة، مهما كان القادم، فيجب أن يضع هذين الهدفين الأساسيين نصب عينيه، تحرير مياه النيل من التهديد الإثيوبى، والوصول إلى اتفاق عادل يضمن التدفق التاريخى لمياه النيل، والبحث عن مصادر موازية للمياه، مثل مشروع قناة جوجلى، أو ربط النيل بنهر الكونغو، لأننا فعلًا نعيش على حافة الجفاف، وإذا لم نخترق الصحراء بأنهر جديدة فسوف تزحف علينا وتطمرنا برمالها الصفراء، وعليه أيضًا أن يحل مشكلة القمح، لا بالاستيراد والشحاذة، ولكن بالعمل الجاد على زيادة الرقعة الزراعية واستخدام السلالات الجديدة من البذور لمضاعفة الإنتاج، نحن نتكاثر، ولا نستطيع أن نوقف ذلك، ولا يجب أن نقف جميعًا على حافة الانتحار، لأن الإدارات المتوالية عاجزة عن حل المشكلة، هناك آمال وأحلام أخرى، ولكنها لن تتحقق إلا بعد أن ننتهى من حل هاتين القضيتين الأساسيتين.