الفاشية الوطنية تجىء عقب الانهيارات العظمى.. فى هذا السياق جاء هتلر. ألمانيا كانت خارجة من الحرب العالمية الأولى منهزمة ومتشظية (التشظى هنا ليس على مستوى الجغرافيا بل على مستوى القوى المكوّنة للدولة). وبخطاب وطنى (حراق) تمكّن هتلر من إعادة تجميع تلك القوى فى ضفيرة واحدة، هى ضفيرة الخطاب الوطنى المدغدغ للعواطف. تبنّى هتلر مشاريع عظمى، معظمها مرتبط بالحرب، منها مشروع الأوتو بان: شبكة طرق، صارت اليوم هى الأضخم فى العالم.
كان المشروع مجرد حلم يداعب خيالات الحالمين الألمان، حتى وصل النازى إلى سدة الحكم. خصّص هتلر ميزانية مفتوحة للمشروع و١٠٠ ألف عامل. وطلب أن تتم هندسة المشروع، بحيث يسمح بهبوط الطائرات عليه. فصار المشروع مشروعين: شبكة طرق عملاقة تربط بين أجزاء ألمانيا، وشبكة مهابط لهبوط طائراتها. أستطيع أن أتخيّل الوطنيين الألمان وهم يلوحون بالأعلام ويرقصون فى الشوارع، يغنون للمشروع، غير مدركين أن الأهم من أى مشروع هو الفلسفة التى تختبئ ساكنة وراءه. تلك الفلسفة الوطنية اللاذعة التى جلبت الهزيمة والخراب لألمانيا بعدها بسنوات قليلة.
ليس بالمشاريع الضخمة تُقام الدول وتؤسس الأنظمة، إنما باحترام المواطنة والتعدّد والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.. اليابان لم تصعد بمشاريع ضخمة، صعدت باختراع صغير وبسيط. شافت أن أفراد الأسرة الواحدة، يتجمعون حول الراديو، الذى كانوا يسمونه فى الشرق الأوسط: صندوق العجب.. فكانت الأسر تتخانق: الأب يريد سماع نشرة الأخبار.. الأم تريد سماع التمثيلية.. بينما البنت تريد سماع الأغانى.. دخلت اليابان على الخط وقدّمت الحل.. الراديو الصغير الذى يحطّه الجنود فى جيوب ستراتهم وهم يسمعون أم كلثوم.. لكن ليس قبل أن يوقع إمبراطورها على ٦ بنود قدمها له الجنرال الأمريكى ماك أرثر، على ظهر بارجة أمريكية، كان أول بند منها يقول: إننى (إمبراطور اليابان) لست الله.. ومن الراديو الصغير انتقلت اليابان لتصنيع الساعات الرقمية.. ثم انتقلت النقلة الضخمة وتخصصت (تقريبًا) فى تكنولوجيا الأقمار الصناعية. وإذا كانت اليابان قد طرقت أبواب العالم بالراديو (أيوه الراديو الصغير دا)، فإن فنلندا طرقت أبواب العالم بموبايل نوكيا.
فى المعتقل كان معى شباب متدينون، وكانوا يكثرون من التحدّث عن سيادة العالم.. مثلًا يرددون: كنا أسياد العالم.. وكنت أقول: لماذا أنتم مشغولون بسيادة العالم؟.. لا أحد فى العالم سيسمح بتسيّد أحد عليه.. انتهت أزمان التسيّد.. ودخلنا أزمان الشراكة.. لماذا لا تشغلون أنفسكم بأن تكونوا شركاء للعالم؟ فى مصر ٤٠٪ من آثار العالم، كما تقول الإحصائيات شبه الحكومية.. هذا طريق هاى واى للشراكة مع العالم.. إذا كنا نريد أن نكون شركاء.. أما إذا أردنا أن نكون سادة.. فإننى أحب أن أقول لكم: انتهى زمن جلب العبيد.