.. فأما «إتش» هذا فهو ذلك الفيروس الخطير المحترم الذى اسمه الكامل «إتش وان إن وان» واسم الدلع أو الشهرة فيروس «أنفلونزا الخنازير»، وفى الورقة الأولى من ورقتَى الذكريات عثرنا عليها بالصدفة فى شارع فرعى قريب من «ميدان المؤسسة» بينما كانت الرياح تذروها وتعبث بها ذات اليمين وذات الشمال، حكى الأستاذ «إتش» وقائع ما سمّاه «يوم غربته الأول» فى جسد مواطن مصرى، وكيف فوجئ بالتنوع والثراء اللذين طَبَعَا بملامح «كوزموبوليتانية» المجتمع القائم فى جوف هذا الجسد حيث وجده يشغى بشتى الجاليات الفيروسية والميكروبية اللى خلقها ربنا، تعيش كلها آمنة مستقرة فى ظل القيادة الحكيمة لفيروس «سى» الذى أفاض من واسع كرمه على أخينا «إتش» وأحسن وفادته واصطحبه معه فى سيارته الفاخرة وفسحه وأقام له وليمة عشاء فى قصره الفخم المطلّ على «منطقة الكبد» قبل أن يعيده آخر الليل إلى فندق «الصدر المسدود»، أما فى الورقةالثانية فقد حكى الآتى نصًّا:
صحوت مبكرا وكان مزاجى رائقا وذهنى متقدا صافيا ولم أضيع فى الكسل واللكاعة الصباحية اللذيذة وقتا مثيرا وإنما شمَّرت عن ساعد الجد بسرعة وباشرت عملى فورا وبدأت بالتكاثر وإفراز ما يكفى من ذريتى لأداء المهمة وتحركت قاصدا أولا منطقة «الرئوية» القريبة من الفندق وتجولت قليلا فى غابة «الشُعب الهوائية» وهالنى ما فيها من بلاوى وملوثات رائعة، ثم توجهت إلى «مجرى الدم» وبثثت فيه ما تيسر من سمومى قبل أن أعرّج على «النخاع» حيث قمت بمعاينة أولية متأنية للمكان.. وهكذا تآكلت ساعات النهار ولم أكد أشعر بها من فرط الانهماك، لكنى لاحظت بدهشة كبيرة أنه رغم الأعراض الواضحة التى سبّبها دخولى جوف هذا الرجل أمس، فإن أحدا لم يعترض طريقى ولم أصادف أى عقبة أو مشكلة وأنا أنفُذ وأتنقل بخفة وسهولة ويسر من منطقة إلى أخرى حتى إننى نسيت تماما «الكود الدفاعى» الذى أحمله معى والمعدّ لإرشادنا نحن معشر الميكروبات بوسائل الحماية فى حالة تناول البنى آدم الذى نعمل فيه أى أدوية أو عقاقير تستهدفنا، والحق أننى حمدت ربنا كثيرا على ظروف العمل الرائعة والمريحة التى هيأتها لى الأقدار فى هذا الجسد!
كانت الشمس تتأهب للرحيل حينما عُدت إلى حجرتى فى الفندق.. ارتميت على السرير بهدومى وغبت فى غفوة عميقة أيقظنى منها صوت جرس التليفون وهو يقرع جنبى فلما رفعت السماعة أتانى صوت «فيروس سى باشا» يسألنى: ماذا كان يومك يا أخ «إتش» طمنّى؟! فجاوبته شاكرًا اهتمامه وسؤاله وحكيت له كيف كان اليوم رائعا وموفقا أكثر مما تمنيت فى أفضل أحلامى، فقال الباشا: عال عال.. إذن دعْنا نحتفل بك ونلتقى مساءً فى «نادى الجالية الميكروفيروسية»، وسوف تكون فرصة لتستكمل تعارفك بالزملاء وُجهاء الجالية.. سأتركك الآن تستريح ساعة وسأمرّ عليك الساعة تمانية عشان نروح سوا النادى.. باى.
وصلت مبنى نادى الجالية بصحبة «فيروس سى» وأبهرتنى مساحته الضخمة وأناقته الشديدة ودخلنا معا إلى القاعة الرئيسية، ولست أستطيع وصف الحفاوة والحرارة التى قابلنى بها الزملاء، لكن الباشا -بجديته وروحه العملية- لم يشأ أن نضيع الوقت فى الأجواء الاحتفالية، إذ هتف فجأة:
يا جماعة صديقى «إتش» بدأ اليوم فقط عمله الجد ولا بد أنه يحتاج إلى سماع نصائحنا وخلاصة خبرتنا الطويلة هنا، وكذلك ما قد يكون تناهى إلى مسامع بعضنا من أخبار تخص مهمته.. راح الزملاء يتحدثون الواحد تلو الآخر بعدما ألقيت أنا كلمة قصيرة شكرت فيها الجميع وأعربت عن بالغ امتنانى وتأثرى باستقبالهم الحار لى.. كانت كل النصائح عادية وعمومية وكان إجماع الكل أن لا مشكلات حقيقية فى هذا المكان، غير أن أكثر من زميل نبَّهنى إلى أن ثمة معلومة وصلتهم بأن الرجل الذى نعمل فى جسده ربما يتوجه بعد ساعات إلى المستشفى، وأعترف بأن هذا الخبر أثار اضطرابى وفضحتنى مظاهر قلق وخوف تسربت إلى ملامح وجهى مما دعا «الباشا» وأغلب الزملاء إلى طمأنتى بأنهم سيكونون إلى جوارى لتقديم المساعدة لى فورا إذا حدث شىء فيه خطر جدى لا سمح الله، بيد أن كلهم تقريبا بدوا مستخفين بالأمر، وهو ما عرفت سببه عندما تأكدت المعلومة وذهب المصرى فعلا إلى المستشفى وأعطوه هناك عقاقير وأدوية فوجئتُ بأنى وجدتها رائعة ولذيذة جدا لدرجة أننى أدمنتها ولم أعد أستمتع بطعم الحياة بدونها..
هكذا قال و.. انتهت المذكرات.