ماذا يفعل الكاتب حين يجلس ليكتب فيجد قريحته فارغة ناضبة تكاد تتشقق من الجفاف والخواء؟
الإجابة المنطقيةـ طبعًاـ أن يكف فورًا عن «المعافرة» فيريح ويستريح، غير أن الراحة ترفٌ لا يملكه أمثالنا الذين لا يكتبون من باب الهواية، وإنما كواجب وظيفى لو امتنعوا عنه امتنع عنهم الرزق، بينما لم يتدربوا كفاية على فنون العمل بمهنة «المكوجى» كما تعوذهم مواهب النشالين، وفاتهم قطار الهجرة إلى مباحث التموين أو مغارة «سياسات» نجل الرئيس.
والكتابة عمل مضنٍ إذا التزم القلم بقيود ومقتضيات الصدق والضمير، لكنها فى سهولة «الإسهال» وتلقائية «التبول اللا إرادى» عندما تستحيل نفاقًا يتوسل بالجهل ويتغياه، وسباحة فى بحر الكذب والتضليل الذى هو بغير شطآن، غير أن الكتابة عمومًا إبداع له خصائص الكائن الحى الذى تتجدد خلاياه بالضرورة من صيرورة الحياة فى المجتمع وغناها بالتنوع، وعندما تأتى عليه كل إشراقة شمس بشىء فيه جدة. والكتابةـ كما أى شىء آخرـ تزوى وتموت فى أجواء الجمود العطنة، وعندما يسود الملل وتهبط الرتابة بثقلها على الناس والأحداث ويتفشى الجدب والضجر ويستحيل المشهد المجتمعى إلى «طبيعة صامتة» أو صورة التقطت من الفضاء البعيد لخرابة يسكن فيها الحطام والركام والأوساخ من كل نوع (مثلا عصابات القتل والإجرام السارحة الآن فى طول البلاد وعرضها لم تهبط علينا فجأة من السماء، وإنما هى نبت شيطانى نما وترعرع فى بيئة تراكم فيها القبح والبؤس والفساد على مدى عقود طوال) هذه الخرابة ربما تبدو أحيانا وكأن الذباب- حتى الذباب- هرب منها وهجرها وحرمها من صوت طنينه وتركها تغرق فى صمت صاخب أو صخب أخرس!
فى حالة من هذا النوع من أين يأتى الكاتب (أى كاتب) مهما علت همته وتفوقت مؤهلاته ولمعت أدواته بالقدرة على مقاومة النضوب والفشل والعجز عن أداء وظيفته؟! هذا الكلام ليس- والله العظيم- تبريرًا من العبد لله، لكنه بوح وشكوى، هى أيضا ليست جديدة، بل معادة ومكررة، ما يضاعف الآن إحساسى بالألم والشعور بالذنب، إذ اتخذت منهاـ مضطرًّاـ موضوعًا لكتابة سطور اليوم بعدما أعيتنى الحيل وقادتنى تأملاتى اليومية (بحكم المهنة) فى أحوال وأوضاع مجتمعنا ولوحة الفوضى الغارق فيها إلى اعتقاد راسخ بأننا قفزنا وسكنَّا تمامًا فى قلب مسرحية من مسرحيات العبث واللا معقول.
يقول شارحو ومنظرو مسرح العبث إنه آل على نفسه مواجهة وتعرية عبثية ولا معقولية واقع الحياة الإنسانية وجدبها وزيفها عن طريق محاكاة هذه الحقيقة المرة ونقلها عارية على خشبة المسرح بغير ذواق كاذب باستخدام تناسق ومنطقية درامية تفتقر إليها الحياة خارج قاعة العرض، لذلك وضع «صمويل بيكيت» أبطال إحدى مسرحياته وسجنهم فى «براميل» فلم تظهر من أجسادهم غير الرؤوس وظلوا يتبادلون- فى ظلام شبه تام- الصمت، وكلمات بلا معنى ولا سياق حتى انتهت المسرحية!
ويصور «جان جينيه» فى مسرحيته «الخادمتان» هروب بطلتيه من حياة الانسحاق والعدم التى تعيشانها فى الحقيقة إلى أكاذيب تلقيها كل منهما على مسامع الأخرى، بينما تتقمصان- بالتبادل- دور سيدة البيت فى لعبة مكشوفة ولا نهائية تتباريان فيها حتى يسدل ستار المشهد الأخير!
والفكرة الأساسية فى مسرح العبث هى الفوضى الشاملة وأن لا شىء فى مكانه وأن حياة الناس تمضى آلية ورتيبة وفى حلقة مفرغة تجعل «اللى نبات فيه نصبح فيه» هو اليقين الوحيد فى واقع ثابت بقسوة لدرجة العدم، فالأعمار تفنى والأجيال تطلع ثم سرعان ما تخبو وتندفن، بينما الأحداث تتكرر والأنباء والأخبار تعيد إنتاج نفسها فيستحيل الوجود الإنسانى فراغًا يولد من فراغ.
نلتقى غدًا..