علمونا فى الطب الشرعى أيام الكلية أن تقرير الوفاة -مهما تعددت الأسباب- ينتهى بعبارة أن هذا حدث نتيجة هبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية. مهما كانت طريقة الموت سواء مزق قطاع الطرق الرجل بطلقات الآلى على الطريق الدائرى، أو داس عليه قطار، أو أصيب بالتهاب رئوى أو نوبة قلبية.. دائمًا هناك مصب واحد نهائى اسمه «هبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية»، وهذا المصب يعتبر مخرجًا ممتازًا لمن لا يعرف سبب الوفاة أو يريد تجاهله. يموت السجين بعد ما تلقى علقة ساخنة بالأحذية والكهرباء، فتكتب الإدارة: «هبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية». يموت المريض ولا يجد الطبيب تفسيرًا لوفاته فيكتب أن سبب الوفاة «هبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية». مع عدم وجود تشريح يموت المصريون جميعًا بهبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية فقط ولا يوجد سبب آخر.
تذكرت هذا عندما قرأت فى جريدة الشروق – تاريخ 18 يناير 2014- أن وزارة الصحة قالت إن وفاة الطبيبة دعاء إسماعيل محمد أحمد بالوحدة الصحية بكفر مجاهد – مركز السنبلاوين، محافظة الدقهلية، جاءت نتيجة تدهور فى مؤشراتها الحيوية عقب إصابتها بسعال وضيق فى التنفس، نافية ما نشرته مواقع إخبارية ومواقع للتواصل الاجتماعى حول انتقال عدوى بفيروس قاتل إليها. الطبيبة المتوفاة تبلغ من العمر 25 عاما، وكانت حاملاً فى الأسبوع 37 ولا تعانى أى أمراض، وفى يوم الجمعة الموافق 10 يناير الجارى شعرت بضيق فى التنفس مع سعال وخلال 24 ساعة كانت قد نقلت للمستشفى حيث لاقت ربها. وتنفى الوزارة فى كبرياء أن تكون الطبيبة أصيبت بفيروس قاتل، بل هى توفيت بسعال وضيق تنفس!.. يا سلام!.. من أين جاء السعال وضيق التنفس؟... هناك أسباب عديدة للسعال وضيق التنفس طبعًا، لكن الخبر يعتبر أن هذين العرضين ينفيان احتمال الإصابة بفيروس!
هناك درجة واضحة من الارتباك فى بيانات وزارة الصحة. وهذا الارتباك يشى بأن الوضع سىء أو سيسوء. الوزارة تصر على أن ما يجتاح المسشفيات ويقتل المرضى والأطباء عدوى تنفسية عادية، ومصر خالية من الفيروسات القاتلة، بينما يعرف أى طبيب أن هذه حالات انفلونزا خنازير، وتقارير مختبرات وزارة الصحة تقول بوضوح إن هذا فيروس H1N1.
يكره المرء أن يقول إنه كان محقًا، لكننى كتبت مرارًا عن أن انفلونزا الخنازير مرض حقيقى مخيف، أودى بحياة كثيرين، لكن نظرية المؤامرة سيطرت على الناس فراحوا يتحدثون عن المرض المختلق الذى لا وجود له، وعن عقار تاميفلو الذى يحقق المليارات للشركات النصابة، وعن لقاح انفلونزا الخنازير الذى يسبب تخلفًا عقليًا وتحللاً فى المخ.. كتبت عن هذا كثيرًا جدًا فى ايام مبارك، وقد تراجع الخطر لعامين ثم عاد يطل برأسه، أما انفلونزا الطيور فلم تتراجع لحظة.
على كل حال ينبغى أن يرفع المرء درجة الشك لديه كلما أصيب بانفلونزا يصاحبها إسهال أو إرهاق واضح أو تكسير رهيب فى العظام.. أو إنفلونزا بدون تلك الأعراض اللعينة المألوفة مثل العطس وانسداد الأنف.. فى مستشفيات الصدر لا ينتظرون طويلاً قبل بدء عقار تاميفلو، لأن المريض قد يتدهور بسرعة البرق قبل أن تصل نتائج العينات المرسلة لوزارة الصحة، وغالبًا ما يتضح أنها إيجابية.
بما أن الشىء بالشىء يذكر، فقد حان الوقت لنتكلم عن شهداء الأطباء الذين فتكت بهم عدوى تنفسية غامضة...هذا يذكرنا بالإيطالى كارلو أوربانى الذى اكتشف مرض SARS التنفسى ومات به. لقد صار العدد يتزايد فى كل يوم. هل هى انفلونزا الخنازير؟.. هل هو فيروس كورونا الذى نستورده من السعودية؟.. هل هى بكتريا ستاف أورياس MRSA التى تقاوم كافة المضادات الحيوية والتى صارت مشكلة مرعبة فى العالم كله؟
هناك تضارب معلومات شديد.. لا يمكن تبين الحقيقة وسط هذا الضباب. لكن شبكة الإنترنت تغلى غضبًا خصوصًا بعد استشهاد د. أحمد عبد اللطيف نائب الرعاية المركزة ببنها، والذى قيل إنه أصيب بعدوى MRSA من مريضة لديه فى العناية كان يركب لها أنبوب قصبة هوائية.. مع الوقت يوشك د. أحمد أن يصير (خالد سعيد الأطباء)، والصفحة التى تنعيه بالفعل تحمل اسم (كلنا أحمد عبد اللطيف). لقد جاءت وفاة د.أحمد لتكون القشة التى قصمت ظهر البعير فى علاقة الأطباء بوزارتهم وربما نقابتهم كذلك.
كان الأطباء الشباب يعانون الاضطهاد المادى.. ثم جاءت حالة الانفلات الأمنى بعد الثورة، وظاهرة أقارب المرضى البلطجية الذين يضربون الممرضات والأطباء أولاً قبل أن يخبروهم بشكوى المريض.. الآن جاءت العدوى التنفسية القاتلة التى تحصد كل يوم أسماء أخرى..
ألم أخبرك أن د. أسامة راشد بمستشفى المنصورة (38 سنة – أب لثلاثة أطفال أكبرهم فى أولى ابتدائى ) توفى إلى رحمة الله فى نفس الظروف؟.. لم ينقل لمستشفى فى القاهرة إلا بعد 19 يومًا، وبعد ما توفى طبيبان آخران.. وقد سبب هذا التأخير سخطًا فى النقابة. أنا أؤمن أن د. منى مينا شخصية باسلة نشطة، لكنها تواجه الغضب الهائل بين ما تستطيع تحقيقه فعلاً وبين مطالب الأطباء ولا أقول أحلامهم.. يقول أحد الأطباء على النت عن د. أسامة: «عارفين كمان كان بيتعامل ازاى فى مستشفى الجامعة بعد الموضوع ما طول؟ عارفين لما احتاج دواء موجود فى مركز غنيم حصل ايه؟ عارفين أخوه الطبيب لما أصر على نقله للقاهرة زى النقابة ما وعدت وكيل الوزارة عمل معاه إيه؟ عارفين الدكتور ده صرف كام فى مرضه؟ عارفين الدكتور ده هيقبض معاش كام؟ وفى أخر الحكاية السؤال هو ياترى الدور على مين فينا؟». لا أعرف إجابة هذه الأسئلة لكن من الواضح أن الإجابة عنها كارثية و(زى الزفت). جاء دور د. ياسر البربرى من الدقهلية ليلحق برفاقه، وقد بدأنا الكلام بذكر دكتورة دعاء. بعد هذا صار خبر وفاة طبيب بالعدوى التنفسية بابًا ثابتًا فى الصحف مثل باب السودوكو والكلمات المتقاطعة.
لقد فجر هذا الكثير من الغضب الاجتماعى، خاصة والطبيب يقبض مبلغ 19 جنيهًا كبدل للعدوى وهو يتنفس هواء ملوثًا ويقف وسط أسرة ملوثة فى دماء ملوثة. بينما السلك القضائى مثلاً يحصل على 1200 جنيه كبدل للعدوى. ما هى فرص التعرض لعدوى فى المحكمة؟
وزارة الصحة تصر فى كبرياء على أن الأمور مستقرة..نشر الكثير من الأطباء صورًا للقطط التى تنام على الأسرة فى مستشفيات وزارة الصحة وتخطف طعام المرضى، فكان رد وزيرة الصحة د. مها الرباط أنه يجب أن يكون الطبيب إيجابيًا ويهش القطة..!... على الطبيب الصالح أن يهش القطط وينش إذن، ويلعب التايكوندو مع أقارب المريض الذين يحملون السنج، ويبتسم للمرضى ويقرأ أحدث المراجع ويكون رائعًا.. لماذا؟.. لأنه ابن الجارية طبعًا..
ماذا يقتل الأطباء؟.. هل تقدم وزارة الصحة بيانًا واضحًا شفافًا؟... سيظل الأمر لغزًا مثل أمراض الصيف المعدية والسحابة السوداء، لكن لدينا تفسيرًا سهلاً واضحًا يريح الجميع: قتلهم هبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية.