فى منطقة النزهة الجديدة بمصر الجديدة.. يوجد مبنى جديد مهيب فخيم لرئاسة حى النزهة.. رخام، ومصاعد لراحة الجمهور، وأمن مصحصح، وغرف واسعة مشمسة.. وموظفين كتير. صحيح أغلبهم مش موجود، خصوصًا مهندسى الحى.. إما فى الحمام أو فى اجتماع مع المدير.. لكن فى الدور الثالث من المبنى أغلب الموظفين موجودون.. لأنهم موظفو وزارة المالية.. التى يطلق عليها المطحونون من الموظفين ومحدودى الدخل اسم «وزارة الجباية».. ذهبت لاستخراج كشف مشتملات عقار.. كشف لا يحتاج أكثر من دقيقة على الكمبيوتر.. الحقيقة وجدت الموظف موجودًا.. والدفتر الذى يحتوى بيانات العقار موجودًا.. والاستمارة المطبوعة لكتابة بيانات طلب الكشف متوفرة.. ملأت الطلب وكدت أتفاءل.. الساعى مشكورًا ومرحّبًا ذهب بالطلب إلى الموظف المسؤول، وعاد بالدفتر لمدير القسم فى أقل من دقيقة.. مستوى التفاؤل عندى بدأ يرتفع وتقريبًا ابتسمت وزال توترى وتربّصى بالمكاتب الحكومية الخدمية.
لكن منظر الدفتر العتيق أثار بعض الشك فى نفسى.. الدفتر هو نفسه المتوارث من أيام محمد علِى باشا الذى أنشأ أول وزارة مالية فى مصر من 158 سنة بالتمام والكمال -فبراير 1856-.. لم ينهار الدفتر بين يدى الفراش ولا بين يدى المدير وهو يفتحه.. ضفّتا الدفتر ابتلعتا مساحة المكتب.. وأطرافه متآكلة -لا أدرى بفعل الزمن أم التخزين أم عائلة ميكى ماوس-.. صحيح هذه الأطراف المشرشرة تنذر بالقلق.. لكن وجدت الصفحة سليمة وبيانات العمارة واضحة والحمد لله.. طمأننى سيادة المدير على إصدار الكشف المطلوب.. ثم قذفنى بالعبارة الملعونة «فوتى علينا بعد أربعة أيام».
وباختصار.. لأن السخرية هنا موجعة.. السخرية لن تضاعف إلا آلامنا نحن المواطنين المتعاملين مع هذه الوزارة الإيرادية، التى تحصل الضرائب مقابل تمتعنا بخدمات الحكومة.. باختصار لا يوجد ولا كمبيوتر.. لم تتم ميكنة فرع وزارة المالية فى مبنى حى النزهة الجديد النموذجى.. فماذا يحدث فى المبانى العتيقة للأحياء القديمة؟!
استسلمت وانصرفت.. لأن فعلًا رحلة استخراج الكشف المطلوب يدويًّا، تتطلب مشوارًا طويييلًا بين المكاتب لجمع توقيعات الموظف، والمراجع، وصولًا إلى ختم المدير.. وأنا منصرفة رأيت وجه كوهين، وسمعت صوت نجيب الريحانى باشكاتب العزبة وهو يسلّى نفسه فى أثناء تدوين مصاريف وإيرادات الوقف.. عندك يا سيدى جوزين حمام!!
والعجيب أن وزير المالية فى حكومة د.الببلاوى هو د.أحمد جلال.. الاقتصادى المرموق الذى عمل مديرًا تنفيذيًّا لمنتدى البحوث الاقتصادية، وهو مؤسسة بحثية إقليمية تغطّى البلدان العربية.. فهل أدارها بدفاتر محمد علِى باشا!!!
ويا ترى ما الخطة التى وضعتها حكومة ثورة يونيو لتنمية حصيلة الضرائب وتطوير نظمها؟ وهل خطة ميكنة المصالح هى خطة خمسية أم قرنية؟ لا أسأل من باب السخرية، لكن لأنى رأيت الدفاتر الجديدة التى صرفتها وزارة المالية للموظفين على مكاتبهم.. دفاتر عفيّة صرفتها لهم وزارة المالية لنقل البيانات من الدفاتر القديمة المهلهلة خوفًا من ضياعها!! ولضمان سلامة الجباية وعدم تهرّب أى ممول!!
واللطيف، أن وزارة مالية الثورة فى منتهى النشاط فى إصدار المنشورات.. آخر منشور فى 2014 عنوانه «تطوير المصالح الإيرادية واستكمال ميكنتها لتقديم خدمة أفضل للمواطنين».. الحقيقة أن الخدمة الأفضل التى رأيتها، كانت فى وجود مصعد فى المبنى الجديد فقط.. وفى ابتسامة الموظفين وهدوئهم.. طبعًا هى ابتسامة «مافيش فايدة».
يا سيادة الوزير الخبير.. ميكنة فرع وزارتك فى كل الأحياء هى أولوية عاجلة.. وهى أبسط حقوقنا على وزارة تحصّل الضرائب قبل تقديم الخدمات.
لك الله يا مصر.. رئيس جمهوريتك مستشار وخبير، والعدل ما زال كسيحًا.. القضاء الناجز أصبح وهمًا.. يموت المظلوم والقضاء العاجز يتداول قضيته ببطء.. قضاؤنا معصوب العينين مكبّل الأيادى، لأنه تحجّر فى نظامه العتيق.
ووزير ماليتك خبير، ودفاتر محمد علِى باشا ما زالت تُدير وزارته.
هل تسمعنا هذه الحكومة؟.. هل ترانا؟.. على الأقل هل تستحى منّا؟ أنا أشك، لأنها غالبًا مشغولة بالتصريحات وإصدار المنشورات.