التقيت بها مرة أو اثنتين فقط فى منزل الموسيقار الكبير الراحل محمود الشريف، كانت تطلق عليه إجلالا وتقديرا «خوفو» الموسيقى، بينما هى كانت الفنانة والإنسانة الأقرب إلى أنغامه ومشاعره، بعد أم كلثوم لم ير الشريف فى أصوات النساء سوى ليلى مراد وشادية. كانت شادية تشترط أن اللقاء ليس للصحافة، وأتذكر أنها كانت فى تلك السنوات مطلع الثمانينيات تحفظ لحن «غربتنى الدنيا عنك» وسجلته بالفعل بصوتها على عود الشريف، ولكن فى اللحظات الأخيرة تراجعت وغنته ياسمين الخيام، ولكن اللقاء بينهما لم ينقطع فهى ابنته وظلت الأقرب إليه فى عز معاناته الصحية خلال الأشهر الأخيرة من حياته.
كان صوت شادية «يا حبيبتى يا مصر»، هو الضوء الذى سرى فى وجدان الثوار مع بداية ثورة اللوتس، وعاد صوتها مجددًا بعد عامين فى نفس التوقيت ليضمد الجراح فى بورسعيد الباسلة فى زمن عبد الناصر، التى صارت ثائرة فى زمن مرسى، وهى تقول «أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد لتبوس لى كل إيد».
أمس كان عيد ميلادها، تفضل شادية دائمًا الهدوء وليس هذا الأمر مرتبطا بقرار الاعتزال الذى اتخذته قبل أكثر من ربع قرن، شادية بطبعها عزوفة عن أجهزة الإعلام ولن تجد فى أرشيفها المقروء والمسموع والمرئى إلا القليل جدًّا.
عندما اعتزلت كانت حريصة على أن لا تتورط مثل عدد من الفنانات اللاتى أعلنّ أن الفن حرام، ابتعدت بلا ضجة ولم تتبرأ من أى أغنية أو فيلم أو مشهد.
كان صوتها يشد من أزر الثوار طوال 18 يوما حتى رحيل الطاغية مبارك، إلا أن الغناء الوطنى يعبر عن وجه واحد فقط من ملامح شادية، جمعت شادية بين كل الأطياف والألوان الغنائية فسكنت أغانيها القلوب، فمن ينسى صوتها الضاحك «يا دبلة الخطوبة» أو الشجى «ليالى العمر معدودة» أو الوطنى «يا حبيبتى يا مصر»، ثم تناجى الله قبل الاعتزال «خد بإيدى».. دائمًا هى حاضرة معنا فى حياتنا نعيش معها الحب بكل أطيافه لله والوطن والبشر.
شاركت عديدا من كبار المطربين فى أفلامهم: محمد فوزى، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، كمال حسنى، كان اسمها أكبر من عبد الحليم، ورغم ذلك ساندته فى أول أفلامه «لحن الوفاء»، وسبقته فى «التترات»، ووافقت على أن يسبق اسمه اسمها فى الأفيش، وشاركت الوجه الجديد كمال حسنى بطولة فيلمه الوحيد «ربيع الحب»، لم تتنازل عن القمة، والصحيح أن نقول إن القمة لم تتنازل عن شادية. كانت تقول على الفنان قبل أن تودعه الأضواء، يودع هو الأضواء.. وقدمت عشرات الأفلام التى دخلت ذاكرة الناس ومن بينها «أغلى من حياتى»، شاركت صلاح ذو الفقار البطولة وقدما دورَى أحمد ومنى، وانتقل هذين الاسمين من الشاشة إلى الشارع، ودائمًا ما يردد الناس تعبير أحمد ومنى على العمل الفنى الذى يتناول علاقات رومانسية بين حبيبين.
طموح الممثلة شادية لم يعرف حدودًا.. كل المطربين والمطربات الذين سبقوها كانوا حريصين على أن تتخلل أفلامهم أغنيات، ولكن شادية حطمت هذا القيد بداية من «اللص والكلاب» للمخرج كمال الشيخ، الذى قدمته فى مطلع الستينيات.
مع كمال الشناوى عشنا أهم دويتو عرفته الشاشة المصرية أسفر عن 33 فيلمًا، وقال لى الفنان الراحل كمال الشناوى إنه ظل حتى سنواته الأخيرة يتلقى خطابات من معجبين يسألونه عن شادية باعتبارها زوجته، والغريب أن كمال كان قد تزوج من شقيقة شادية السيدة عفاف شاكر.
ابتعدت شادية عن الفن، ولكنها لم تجرمه أو تحرمه مثل عديد من الفنانات، وأتذكر عام 1995 أن مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قرر تكريمها، ووافقت بعد أن اتصل بها الراحل سعد الدين وهبة رئيس المهرجان، ولكن فى اللحظات الأخيرة تراجعت وتردد وقتها أن الشيخ محمد متولى الشعراوى أقنعها بالاعتذار، إلا أنها طلبت من مديحة يسرى أن تتسلم التكريم، بينما اكتفت هى بالصمت.
سوف تلاحظ أن الصمت هو واحد من معالم شادية فى مشوارها الفنى والشخصى، ولكنها خرجت عن صمتها قبل أربع سنوات، عندما تردد أن هناك من يسعى لتقديم مسلسل عن مشوارها، وقالت لا أريد لأحد أن يقدم قصة حياتى، ولم يجرؤ أحد على إغضابها، يا حبيتى يا شادية، يا حبيبتى يا مصر.