هذه شهادة كتبتها هدى محمود زوجة صديقى المناضل الاشتراكى الشاب خالد السيد، الذى تم اعتقاله يوم 25 يناير فى أثناء محاولته المشاركة فى مظاهرة سلمية لإحياء الذكرى الثالثة لثورتنا العظيمة، التى كنا نأمل أن تحقق لنا الكرامة الإنسانية، تحكى فيها عن تجربة أول زيارة له فى السجن هو ورفاقه. اختصرت قليلا بسبب المساحة. رعاياك يا سيادة المشير.
هدى محمود: «النهارده كان أول يوم أعيش تجربة الزيارة فى السجن، اللى بيعيشوها آلاف الأسر المصرية، واحنا مانعرفش عن ألمهم ومعاناتهم حاجة، بعد ترحيل خالد وناجى كامل والشباب اللى معاهم من يومين، وبعد محاولات بحث طويلة عشان نعرف رحلوهم فين، عرفنا أنهم فى أبو زعبل، وجبنا إذن تصريح ليا ولزوجة ناجى وياسمين حسام محاميتهم. وصلنا عند السجن الساعة 9 ونص الصبح، لقينا طوابير طويلة ومئات من أسر المعتقلين والمحكوم عليهم فى انتظار الدخول.
وطابور السيدات طبعا وبطبيعة الحال هو الأزحم وفيه أطفال كتير جدا، والسيدات فى حالة من البؤس الشديد والغالبية العظمى منهن من الأقاليم، جايين من مشوار سفر طويل وموجودين من الفجر شايلين معاهم أكل وإعاشة لأبنائهم وأزواجهم، وقدرت أتخيل إزاى ممكن تكون تكاليف مشوار الزيارة والإعاشة عبء مادى تقيل وشوفت بعينى أجسادهم وأنفسهم المنهكة.
ومن الناحية التانية شفت العساكر على البوابة ومعاملتهم للأهالى بمنتهى الإهانة والمتعة فى عنيهم بممارسة السلطة اللى فى إيديهم. وكل شوية ييجوا ستات شكلهم -أهالى تانيين لمساجين تانيين- يعدوا من قدام الطابور. ولما ستات الطابور الغلابة -أو اللى ماعندهمش واسطة- يعترضوا كانوا يبدؤوا وصلة خاصة من الإهانات والتجريح، وكملتها واحدة من الستات (الشيك) ووضحت: أنا أقف فى وسطكم إزاى؟ إنتم أصلا ناس بيئة! وطبعا كان لازم يدخلوا قبلهم.
بعد تعذيب الانتظار والإهانة وأوجاع الناس اللى مشاركاك نفس الطابور، وصلنا باب التفتيش الساعة 12 ظهرا، وكسيدات دخلنا لغرفة التفتيش الذاتى، واللى شفنا فيه جنب إهانة الكرامة إهانة أكبر لأجسامنا. سألنا فين المسجونين السياسيين، قالولنا مع الطلبة فى السجن المشدد. وهناك سألنا على أسماء خالد وناجى، وقالوا: آه موجودين هنا وأخذوا أسامينا.
فى مكان الانتظار -اللى إحنا قاعدين فيه- معظم الموجودين واضح إنهم ناس متاخدين من بعد 30/6، وللأمانة معظمهم من اللى ممكن بيتصنفوا «ظاهريا» بإنهم بينتموا للإسلام السياسى، لكن أنا عينيا ماكانتش قادرة تشوف غير أمهات وزوجات وبنات مصريات قلبهم محروق على أهلهم المعتقلين.
وأخيرااا، على الساعة 4 العصر لما حاولنا نشوف أسماء خالد وناجى فى آخر كشف زيارة، اكتشفنا إنهم فى سجن تانى (ليمان 1)!! طلعنا نجرى على هناك عشان نلحق قبل ميعاد الزيارة ما يخلص، وهناك سألونا الضباط: مين اللى جاى تبع (بتوع السياسة)؟
نزل ناجى الأول ودخلتله زوجته هبة والمحامية ياسمين. وكان واضح من بعيد إنه شكله منهك جدا، ومش ناجى اللى أنا أعرفه. حلقوله شعره زيرو مش زى الجنائيين، ورفضوا يدخلوهم غرفة الزيارة. ووقفوا بيهم بره، ومعاهم ضابط واتنين مخبرين. بعد كده نزل خالد وأنا دخلتله. أول ما دخلت، ورايحة أسلم عليه، الضابط وقفنى، وقال لى: تعالى هنا، إنتى اتفتشتى؟ قلتله: آه فتشونى وأنا داخلة. قال: لأ، تتفتشى تانى ذاتى هنا. ورحت اتفتشت تانى نفس التفتيش المهين.
بعدها شفت خالد، ويا ريتنى ما شفته. شكله تعبان ومش قادر يتكلم، ومانطقش ولا كلمة. ولما سألته: حد عمل فيك حاجة؟ عايز تشتكى من حاجة؟ ماردش عليا. طيب ناقصك حاجة؟ أجيبلك حاجة؟ برضه ما بيردش.
النظرة اللى فى عينيه حسستنى إنه فى التمانية واربعين ساعة اللى فاتوا شاف حاجات غير آدمية! ماقدرتش أشوف ضرب أو إصابات واضحة فى وشه، لكن حالته بتخلينى أتأكد إنهم اتعرضوا لضغوط وانتهاكات.
الضابط قال: مش يالا كفاية كده مع السلامة. ماكنتش كملت معاه دقيقتين، وبصيت على الكيس اللى فيه حاجته لقيت كل حاجة مفتوحة ومتبهدلة والعيش متفرول ومفتفت ولا يمكن يتاكل.
وأنا خارجة سامعة واحدة من زوجات الجنائيين المحكوم عليهم اللى هما بسبب زيارات السياسيين اتأخروا الحقيقة. بتقول: أنا عمرى ما شفت يوم زيارة زحمة كده، ده باين تلات أرباع مصر محبوسة!
خرجت وأنا مش عارفة آخد نفسى، ووضحت تماما بالنسبة لى ملامح المرحلة اللى إحنا فيها. طول عمرنا بنشوف الظلم حوالينا وبنتقطع وبنتعاطف مع اللى بيتظلم، سواء المظلوم أو أهله. لكن كله كوم وإنك تشوفه فى أقرب الناس ليك كوم تانى. التعذيب اللى سمعت عنه من الأهالى اللى كانوا موجودين تعذيب مابيسيبش أثر جسدى، زى إنهم يقلعوهم هدومهم ويغرقوهم مية، ويسيبوهم نايمين فى الساقعة بالليل، واللى بيضربوهم ويبان عليهم الضرب يصوروهم مع الحرز عشان يدعوا إنهم (بلطجية).
والتعذيب النفسى إن خالد وناجى يحضروا حفلات تعذيب على آخرين، وهما مغميين عينيهم وفرض إحساس الذنب عليهم إن الناس دى بتتعذب بسببكم يا بتوع الثورة، كأن التعذيب مبرر ومش جريمة! وكأن الثورة قامت عشان الناس تتعذب لما تعترض على الظلم مش عشان تحررنا من الظلم!
أنا بحب خالد وفخورة بيه وبمواقفه وبكلامه، وثقتى فيه مالهاش حدود. خالد حبيب وزوج، لكن كمان مناضل باتعلم منه وباحترمه. خالد هو مصدر قوتى وصلابتى، وهو اللى دائما بيشحن بطاريتى الثورية لما بتفضى. حبس الداخلية لخالد ظلم مصدر فخر ليا قبل ما يكون ليه، ومهما عملوا لا هو هيبطل يناضل، ولا أنا هبطل أحبه وأدعمه وأناضل على قدى برضه.
الحرية لكل المحبوسين باطل، وبالذات اللى ماحدش يعرف عنهم حاجة. ربنا يصبر كل أب وأم. كل زوج وزوجة، كل ابن وبنت، كل أخ وأخت، كل صديق وصديقة، كل حبيب وحبيبة، ويقدرنا نكمل المشوار».