لا يوجد حياد فى الحياة ولا السياسة ولا الإعلام ومن باب أولى التقييم النقدى، ولهذا فأنا أعلن انحيازى لهذا الفيلم المرشح للأوسكار فى مسابقته 86، هناك ثمانية أفلام أخرى تتطلع لاقتناص جائزة «أفضل فيلم» يوم 2 مارس، ولها مصوغات تؤهلها إلى تلك المكانة الاستثنائية، لكنى أرى أن «12عامًا من العبودية» هو فيلم الأفلام.
«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، هكذا قال العلامة الصوفى النفرى فى واحدة من تجلياته، وعندما أرى بعض الأعمال الفنية تستعصى على التحليل، حيث تقف فيها الكلمات عاجزة عن التواصل أستجير بمقولة النفرى، فهى البلسم الشافى عندما تستسلم الحروف، وتعلن استحالة القبض على المعنى.
الرواية العظيمة واللوحة الأخاذة والفيلم الساحر والقطعة الموسيقية التى تحلق بك بعيدًا، عندما تكون مهمتك هى أن تحيل إحساسك بها إلى كلمات فأنت تفقدها ألقها وخصوصيتها، إذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة تخصم كثيرًا من الجمال فما بالكم عندما نصبح بصدد مجال فنى مرئى ومسموع مثل الفيلم تحيله إلى مجال آخر مقال مقروء. ولهذا مثلًا وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن الرواية العظيمة لا تؤدى بالضرورة إلى فيلم عظيم، كما أن الرديئة ربما تنطوى على خط درامى ما لو أمسك به المخرج لاستطاع أن يصنع فيلمه، الانصهار بين الشكل والمضمون هو خارطة طريق الإبداع الخالص.
طالت المقدمة أكثر مما ينبغى، لكن ليس هذا هو موضوع المقال، لكنى أتحدث عن فيلم استثنائى شاهدته فى مهرجان «دبى»، وهو الآن يسير بخطوات ثابتة وواثقة لاقتناص الأوسكار بعد أن حصل مؤخرًا على جائزتين متتاليتين «الجولدن جلوب» لأفضل فيلم درامى ثم جائزة «رابطة المنتجين فى هوليوود».
كثيرة هى المرات التى وجدت فيها الكرباج ينهال على ظهر العبد الأسود فى الفيلم، وكأنى أتلقيه على ظهرى، الضربات المحسوبة هى فقط التى يختلط فيها الدماء باللحم، وإلا فإن العبد الذى يتقاعس عن ضرب زميله هو نفسه سيتعرض لذات العقاب، الفيلم الذى أخرجه ستيف ماكوين يقدم رواية حقيقية عن رجل حر وعازف كمان موهوب من أصل إفريقى أمسكه بعض تجار العبيد، كان سيدًا فى الشمال، وأرادوا أن يبيعوه كعبد فى الجنوب، والخطة هى محو ذاكرته، وأولها أن يغير اسمه، وأن ينسى تمامًا أنه كان سيدًا، وإلا فإن العقاب القاسى ينتظره وبلا رحمة. هو وزوجته وطفلاه عليهم أن يتحملوا كل صنوف العذاب، إذا لم تقاوم الظلم فأنت عبد، وإذا قاومت فإلى متى؟ علاقتنا بالحقيقة هى العمق الفكرى والدرامى لهذا الفيلم، لا يكفى أن نصمت عن ذكرها بل ونقتنع بأنها أيضًا هى الكذب بعينه، كنا كمشاهدين نريده أن يصمت، ويعلن أنه عبد، تواطأنا حتى نفلت من العقاب.
هل الفيلم يوجه شحنة الغضب ضد نظام العبودية، أم إلى الدفاع عن الحقيقة؟ العبد أراد التحرر، لا لأنه يرفض العبودية، لكن لأنها لم تكن الحقيقة، لكن ما ذنب من ولد عبدًا هل عليه أن يستمر فى الصمت والخضوع، إنها النغمة التى رددها الفيلم باقتدار وبتنويعات مختلفة طوال أحداثه.
الممثل الأسود شيوتييل أجيوفيير المرشح للأوسكار قدم إبداعًا خاصًا فى تقمصه تلك الشخصية التى تقاوم حتى وهى تبدو ظاهريًّا مستسلمة، إنه مثل «السوليست» الماهر فى الأوركسترا، كان أيضًا يعزف على أوتار المشاعر ونبضات القلوب، للعبودية سلاح آخر هو الدين، رأينا قسًا يحرّف فى كتاب الله، لكى يقنع العبد الأسود أن إطاعة السيد هى من طاعة الله، ولهذا فإن تحطيم القيد لن يأتى بقرار ولا بمجرد الإحساس بالعذاب، لكن بأن نمتلك روح التحرر حتى من المقدس الزائف الذى يربطوه عنوةً بالدين، ورغم أن الأحداث لا تنتهى بثورة العبيد، لكن بأن يعود مرة أخرى البطل إلى بلده فى الشمال، ليصبح سيدًا، فإن هناك بذرةً رأيناها تنبت على الأرض ترفض العبودية، إضاءة المشهد الأخير والتكوين الدرامى المغلف بدفء العائلة وصولًا للأحفاد بقدر ما منحنا فيض من البهجة إلا أنه ملأنا بغصة من ألم وفيض من حزن تسكن مشاعرنا، وتتردد مرة أخرى واحدة من تجليات النفرى «القلب يتغير وقلب القلب لا يتغير وقلب القلب هو الحزن»!