علينا أن نفيق من الأوهام التى دأب كثير من المسؤولين عن ترويجها كلما دخلت البلاد محنة الإرهاب على أيدى التطرف الدينى، فيكررون فى كل مرة أن الأوضاع باتت مستتبة وأننا نجحنا فى استئصال شأفة الإرهاب من أصلها، وأنه لم يعد له وجود فى بر مصر..إلخ
لم تقض هذه التصريحات على الإرهاب، وكانت نتائجها السلبية وخيمة، فكل مرة كان يعود أكثر شراسة مما كان عليه وأكثر مالاً وخبرة ودهاءً، وكان أكبر انجازاته الوصول إلى القصر الرئاسى بعد خداع أغلبية أبناء الشعب ومعهم أعداد غفيرة من النخب السياسية والمثقفة!
علينا أن نؤهِّل أنفسنا على أننا سنتجاور مع الإرهاب والإرهابيين لفترة قد تطول إذا لم نغيِّر الخطط والأساليب البالية التى لم تعد تجدى نفعًا.
لقد جاءت أحداث العنف والإرهاب المسلح التى تضرب البلاد هذه الأيام لتنسف عددًا من المقولات التى كانت تبدو ثابتة منذ عقود، حتى أنها كانت تغلُب على بعض النتائج العلمية التى قام بها باحثون نابهون، من هذه الثوابت البادية أن الجهل هو مفرخة التطرف والإرهاب، فكان الرد على ذلك ما حدث من طلاب الجامعات، خاصة جامعة الأزهر، وما تكشف عن الدعم الفكرى والأدبى والنفسى الذى ينالونه من عدد من الأساتذة، بل من بعض العمداء، وبعض المغتربين المقيمين فى أوروبا وامريكا!
وكان يُقال، أيضًا، إن الفقر هو الأساس، فظهرت مؤخرًا وجوه من المتيسرين لتدحض هذا الافتراض! بل إن جماعة الإخوان نفسها من أكثر الجماعات ثراءً فى العالم.
هذه الحقائق الكاشفة لا تنفى أن الجهل والفقر عاملان مهمان فى الدفع بالتطرف الذى قد يلجأ إلى الإرهاب بالسلاح، ولكن من المؤكد أن هنالك عوامل أخرى، تشارك فى تعقيد الظاهرة وتوجب أن تخضعها لمزيد من الدراسات العلمية، خاصة أن هذه التحليلات التى لا تزال هى المعتمدة حتى الآن لم تتوقع أى دور للمرأة فى عمليات العنف وإشهار السلاح، فأثبتت الأحداث الأخيرة أن للمرأة دورأ قد يكون أحياناً أهم وأوضح من دور الرجال!
يُضاف إلى كل هذا ما لم يكن متاحًا بهذه الوفرة للإرهابيين فى الماضى بطول تاريخهم وعبر تاريخ البلاد، مثل السلاح، وخاصة المتطور منه، ومعه الأجهزة الحديثة عالية التقنية فى الاتصال وترويج الأفكار والمراقبة والتجسس..إلخ، وأيضًا التأييد الخارجى من القوى الإقليمية والدولية المعادية لأى ثورة فى مصر يمكن أن تدفع إلى حيز التحقق بالطاقات المحتملة وبقوى الشعب وأبنائه الموهوبين.
ومما يستحق الالتفات إليه والتمعن فى تفاصيله، هذا الاعتراف الصادر من أحد الشباب الذين اشتركوا فى اقتراف جريمة العدوان على كنيسة السيدة العذراء فى مدينة 6 أكتوبر وقتل أحد أمناء الشرطة المكلفين بحراستها، ذلك أن الشاب يعمل نقاشاً، ومن اعترافاته المسجلة على التليفزيون تتجلى بساطة تفكيره وتواضع تعليمه ووعيه، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يحفظ عن ظهر قلب عبارات طويلة تفوق مداركه منقولة بالحرف من الكتابات المقررة لدى أصحاب الاتجاهات المتطرفة! والتى تُكفِّر المسيحيين والجيش والشرطة!
وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا الشاب تلقى تلقينًا على يد من يعرف ومن لديه القدرة على السيطرة العقلية والنفسية، ولديه التمويل الكافى لشراء السلاح، ولديه مستهدفات محددة وخطط لتحقيقها، وأنه قد اتخذ قراره بالدفع بهؤلاء ليكونوا أداته فى تحقيق مآربه!
ومن المفترَض أن تتجه الدولة بأجهزتها المختلفة، وقوى المجتمع الحامية لأمنه ووجوده والساعية لتحقيق المصلحة ألعامة، عدة اتجاهات: هناك البحث الجنائى المنوط به تعقب المجرمين، ومَن حرَّضهم ومَن موَّلهم ومَن قدّم لهم الخدمات اللوجيستية، والقبض عليهم جميعًا وإخضاعهم للعدالة بعد توفير الأدلة المادية والشهود وما إلى ذلك.
وكل هذا يتعلق فقط بماضى الجريمة ووجوب أن ينال المجرمون العقاب، ولكن هنالك جهوداً أخرى تستشرف بالمستقبل، أى العمل على منع الجريمة من منبعها، وهذه مسؤولية المراكز العلمية والباحثين والمفكرين الذين يقع على كاهلهم عبء اقتفاء المنابع الأولى للجريمة، وأسبابها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية..إلخ وتفاعلات كل ذلك، وتطورات التفاعل حتى مرحلة اقتراف الجريمة، وتمتد هذه المسؤولية أيضاً إلى تقديم الاقتراحات والحلول لعلاج الموضوع من جذوره، وعدم الاكتفاء فقط بالجوانب الأمنية التى تقوم بها أجهزة الأمن، ثم يأتى دور السلطات التنفيذية للتخذ القرار على بينة من العلم.
ولتكن نقطة البدء بتطوير أجهزة الأمن، التى صارت متراجعة عن المنظمات الإرهابية فى المعدات والتقنية والتدريب الذهنى والبدنى، ولم يعد هنالك خيار فى وجوب رفع كفاءة هذه الأجهزة بتوفير الأدوات والمعلومات ورفع مستويات قراءة وتحليل البيانات الواردة واتخاذ القرار بأسرع ما يكون، فمن غير المعقول أن تظل السيارات المعدة للهجوم على مديرية أمن القاهرة تجوب المنطقة قبل الجريمة بنحو 5 ساعات دون أن يرتاب فيها فرد أمن!