قبل سنوات كنت فى زيارة عمل قصيرة للعاصمة البريطانية لندن، وتزامن وصولى مع استضافة قاعة «كُنتى هول جاليرى» معرضا مفتوحا ومجانيا، ضم مجموعة ثمينة من أعمال واحد من أقوى علامات الفن التشكيلى فى القرن العشرين، وأكثر مبدعيه صيتا وذيوعا.. سلفادور دالى، الذى عاش حياة بوهيمية صاخبة استهلكت المسافة ما بين عامى 1904 و1989 حين سكت ضجيجه وغادر دنيانا.
وقتها اغتنمت الفرصة وأمضيت نحو ساعتين من المتعة الخالصة فى رحاب إبداعات هذا الإسبانى العبقرى، الذى أسرف وأمعن فى الجنون وغرابة الأطوار، حتى كاد أن يغير من جنس ومفهوم هذه الصفات، ويمنحها تعريفا مختلفا يتجاوز تعبيرات الذم والاستهجان، التى كثيرا ما قوبلت به تصرفاته وعربداته الشخصية والفنية المغرقة فى شذوذ لم يخل من شبهة التعمد والقصد، إلى لفت الأنظار واستقطاب الضوء وجلب واستخراج المال من جيوب الأثرياء المبهورين والمدعين على السواء.
كان مدخل قاعة المعرض يستقبل جمهور الزائرين بمجسم ضخم يحاكى «تيمة» سلفادور دالى الأشهر، أى تلك «الساعة الرخوة» التى تشبه «فطيرة» لينة تنطرح متدلية على غصن شجرة جرداء. وعندما دلفت إلى داخل القاعة تأكدت أن حظى «الذى هو عادة عاثر» أصابه شىء من التغيير الجذرى المؤقت، وأضحى فى هذه اللحظة «حظا سعيدا» فجأة، إذ سرعان ما عثرت نظراتى اللاهثة فى جنبات المعرض على اللوحتين الصغيرتين الثمينتين اللتين تمحورتا حول «تيمة الساعة الرخوة».. أولاهما تلك المرسومة فى عام 1931 والمسماة «إلحاح الذاكرة»، وبجوارها تماما تشعلقت اللوحة الثانية التى أنجزها دالى بعد 23 عاما «1954» وسماها «تفكك إلحاح الذاكرة».
فى اللوحة الأولى كان بإمكانى لأول مرة أن أقف وجها لوجه أمام الأجواء التشكيلية واللونية الساحرة التى تسبح فيها الساعات الثلاث، بعدما أصابها دالى بجنون الارتخاء والليونة، وجعلها تتوزع على شجرة زيتون جرداء وظهر خرتيت متكور وحرف منضدة تنبت منها الشجرة على حين غرة، أما الساعة الرابعة والوحيدة الناجية من داء الليونة فهى تبدو جثة هامدة مقلوبة على وجهها فوق المنضدة، بينما يستقر هناك فى الركن العلوى الأيمن من اللوحة جبل مكفر أجرد يسهم بقسط كبير فى تكوين وتكريس انطباع الناظر إلى اللوحة بأنه أمام انفجار عبثى استهدف تخريب عجلة الزمن وإجبارها على التوقف والشلل.
غير أن سلفادور دالى المتهم دائما وأبدا من رفاقه السورياليين الذين كثيرا ما دللوه ودلعوه فى بداياته، بأنه أضحى «مجرد انتهازى جشع» يبيع الجنون والعبث بلا هدف ولا قضية حقيقية، تطوع بحكاية طريفة شرح فيها كيف أتته فكرة «الساعات الرخوة» قائلا إنه «.. فى إحدى الليالى وكنت انتهيت للتو من عشاء أكلت فيه قطعا من جبنة (كامومبير) الرائعة (نوع من الجبن الفرنسى له رائحة كريهة لكنه مغلف بغلاف لدن وسميك، إذا قطع ساح منه الجزء الطرى الأساسى)، أخذت وأنا على الطاولة أتأمل فى المسألة التى يثيرها الارتخاء المفرط لهذا النوع من الجبنة، ثم وأنا أغادر قاعة الطعام جاءتنى فكرة الساعة المرتخية، والآن أنا مندهش من أن رساما قبلى لم يفكر فيها، تماما كما أتعجب من عدم إقدام موظف فى بنك على أكل ورقة شيك»!!
لكن النقاد والشراح كعادتهم لم يحفلوا بهذه الحكاية المجنونة التى قالها دالى بنفسه، وراحوا يقرؤون لوحة «إلحاح الذاكرة» قراءة أكثر جدية وعمقا، وقالوا فيها كلاما كبيرا جدا، لدرجة أن أغلبهم اعتبرها تحذيرا قويا من انحدار العلم الحديث والتوسل بمنجزاته لتخريب وتدمير المجتمع الإنسانى ماديا وروحيا، بل إن كثرا من هؤلاء رأوا فى هذه الساعات المشوهة العجيبة نذيرا ونبوءة تحققت بالفعل عندما استيقظ العالم على هول قيام الأمريكيين بضرب مدينتى هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين بالقنبلة الذرية بغير مقتضى ولا ضرورة عسكرية، إذ كانت اليابان هُزمت فعلا وعلى وشك الاستسلام.
تلقف دالى هذا التفسير الذى يبرئه من تهمة الهيافة والانتهازية، التى يرميه بها السورياليون وسواهم، فهجر قصة «الجبنة والشيك» وأراد أن يعمق فى الأذهان معنى نبوءته التى صدقت، فأقدم فى عام 1954 على إعادة استخدام كل عناصر لوحة «الذاكرة».. الجبل والشجرة العارية والخرتيت، فضلا عن الساعات الرخوة، وأبدع بها جميعا لوحة جديدة جعلها بمثابة «تفكيك للذاكرة» ونسف تام للزمن الذى كان أوقفه فقط فى اللوحة الأولى.
لقد أراد دالى -على ما يبدو- تثبيت الانطباع بأن فنه المجنون خليق بالنبوءة حقا، كما أنه ليس منزها عن اجتراح تعبيرات صاخبة عن المحن والمكابدات الإنسانية، فإذا به ينقل إلى لوحته الجديدة كل الشواهد والعناصر البصرية من اللوحة القديمة ويغرقها جميعا فى لُجة ماء ثقيلة، موحيا بأن الزمن الذى كان مشلولا مات كما لم يعد الخراب خطرا تتجمع نذره فى الأفق، بل صار واقعا قائما، ومن ثم فإن الذاكرة التى كانت «تلح» وتئن، «تفككت» فعلا على ما يقول اسم اللوحة!!
كل هذه الحكاية عبرت بذهنى وقتها، وأنا أقف مشدوها فى قاعة «كُنتى هول» اللندنية أمام لوحتَى سلفادور دالى، وما زلت أذكر استغراقى الشديد فى لعبة المقارنة بينهما، التى انتهت بأن صارحت نفسى أننى معجب أكثر باللوحة الأولى.. هل لأن «الشلل» على قسوته يظل أهون من «الموت»؟! لست أدرى.