الخريطة المصرية أصبحت واضحة بعد ثلاث سنوات كاملة من تحلّل شبه كامل للسلطة بكل أشكالها، مما أتاح للجميع بلا استثناء أن يعبّر عن وجهه الحقيقى وانتماءاته -أو لا انتماءاته- وتصوراته للمستقبل، بالإضافة إلى قراءة الواقع والتاريخ.
هناك معسكر غالب تتقدمه مؤسسات القوى التقليدية، الجيش، الشرطة، البيروقراطية، الرأسمالية، كنبة الصمت. هذا المعسكر يرى ضرورة الانتصار للدولة أيًّا كانت الآلة التى تحرّكها، يرفع شعار الاستقرار بما يخفيه من أسلوب حياة تعوّد عليه المصريون خلال عقود، يتيح للجميع سككًا للحياة بغض النظر عن التواءاتها وتغييب أسئلتها الأخلاقية. إنه منطق «اللى تعرفه مش حلو قوى، إنما أهو أحسن من اللى ما تعرفوش». عرفنا الفساد الممنهج والقانون الانتقائى والبلطجة كأسلوب حياة وضريبة الحد الأدنى من الأمن وسندفعها صاغرين، لأن هذه كلها شروط حالية لقانون أزلى اسمه قانون البقاء: «الحياة» مجهول ووعد غامض، أما «قيد الحياة» فأمر يبدو أقرب لمجتمع أصبح مدركًا تمامًا لقِصَر يديه.
وهناك معسكر «مغلوب» وضعته نفسه وظروفه وخصومه جميعًا فى حالة عداء مع الدولة والمجتمع. لدى هؤلاء من التيار الإسلامى الواسع ما يلزمهم من وقود يديرون به ماكينة البقاء الخاصة بهم: فهناك «العداء» نفسه، الحياة من أجل ثأر يحجب الفكر عن النظر فى ما وراء الدم والقصاص والشرعية المغدورة والخيانة إلخ.. وهناك «المظلومية» أو خطاب الضحية الذى يأتى ومعه قائمة كاملة من «أخلاقياته» الخاصة، أخلاقيات «الغيتو» والطائفة والفرقة الناجية والتقية ومازوخيزم القبض على الجمر. إن الحراك الذى بدأ فى 30 يونيو 2013 كان من شأنه أن يضمن هذا النوع من «الوقود الوجودى» لذلك المعسكر، بالتوازى تمامًا مع توجيه ضربة قوية غير قاصمة لا تتعدّى الحيّز المؤقت الذى اكتسبه فى أرض السلطة. أما القضاء المبرم على فكرة الإسلام السياسى فأمر لم يقترب منه معسكر الغالبين قيد أنملة مكتفيًا بالحل الأمنى، عارفًا ربما بعجزه عن خوض «المعركة الحضارية الثقافية» التى تبقى مؤجلة لأجل غير مسمى.
ثم هناك المعسكر الديمقراطى الاجتماعى المدنى العلمانى العقلانى الواسع. واسع، أجل، لكنه يظل مشرذمًا وهامشيًّا ونخبويًّا وتنظيريًّا، وسلبيًّا فى العموم.
قضيتى هى هذا المعسكر بالذات. كيف «يحيا» فى مجتمع يكتفى بأن يكون «على قيد الحياة»؟
اليأس خطاب مطروح، لكنه جزء من المشكلة وليس حلًّا. يأس من ماذا؟ تتساءل، فتكون الإجابة: يأس من إمكانية التغيير. لا سبيل إذن سوى البحث عن «إمكانيات جديدة للتغيير». يجب أولًا معاينة وضع «الدولة» على حقيقتها لإدراك أن التغيير من داخل الدولة محكوم بإمكانياته القديمة، بالـ«ممكن» المحدد سلفًا ضمن مفاهيم من مثل (السياسة فن الممكن). البحث عن إمكانية جديدة، إذن يجب أن يكون من خارج السياسة ومن خارج الدولة، لأن التغيير الحقيقى ثبتت استحالته باستخدام مؤسسات الدولة وديمقراطية التمثيل وثنائية الحكومة/المعارضة الخادعة.
التحدّى الحقيقى إذن أمام قوى المستقبل هو أن تخترع أرضًا جديدة للتغيير تواجه من فوقها، وتوَجِّه وتُرغم الدولة الثقيلة على الاستسلام فى معارك تحديث صغيرة، ولكنها كثيرة ومتراكمة. وحتى لا يخلط أحد بين الأفكار، فما أطرحه أبعد ما يكون عن كل أشكال الفوضوية، إذ هو لا يسعى مطلقًا لـ«هدم» الدولة، ويعترف بضرورتها. وإنما هو يسعى للتغيير من خارجها ولا يسعى لاحتياز ما هو قائم من سلطة بقدر ما يسعى إلى تأسيس سلطته هو بمواضعات جديدة.
الوجه الآخر للتحدّى هو شكل الكيان الذى سيشغل الأرض الجديدة، وكيف يجعل من نفسه قوة ضغط حقيقية «تضطر» الدولة بأجهزتها وحكومتها ومعارضتها وسلطتها إلى التعاطى معها فى حالات من «الندية». أود هنا أن أضرب مثالًا مع التنبيه على فارق القياس بطبيعة الحال: الأولتراس والكرة فى مصر.
كيانات الأولتراس بكل ما عليها من تحفظات وهى تحفظات كثير منها فى محلها، لكنها نجحت فى إيجاد معادلة جديدة للغاية، نجحت فى أن تكون قوى مؤثرة من خارج المنظومة برمتها، إضافة جديدة حقيقية لـ«الحياة» الرياضية فى البلد. الآن، تضطر الأندية ومجالس إداراتها للكلام مع الأولتراس، يضطر اتحاد الكرة لعمل حساب لهم، تضطر الداخلية للتفاوض والتنسيق معهم. يستطيع الأولتراس، واستطاع بالفعل، أن يفرض رؤى وإجراءات، ربما تتعلق أحيانًا بمباراة واحدة، وربما بمسابقة بعينها، وربما بالحياة الرياضية ككل. الأولتراس واقع، ولكنه واقع «جديد» بما يكفى للإيمان بإمكانية خلق الوقائع الجديدة.
إمكانية الأمل، هى الدرس الأول. ضرورة التنظيم هى الدرس الثانى. أعترف بصعوبة الوصول لدرجة تنظيم فى الوسط النخبوى المسيّس، تماثل «شبه» الفاشية الممكنة فى جماعات شابّة تجمعها أفكار «شبه» بدائية فى بساطتها، مثل تشجيع فريق كروى أو معاداة تشكيل أمنى، ولكن الفردانية التى تميّز المثقفين وشخصانية السياسيين إن أرادوا أن يكون لهم تأثير فى توجّه أفضل نحو المستقبل، فلا بديل عن شىء من الإحساس.. بالمسؤولية.