هل تتخيل أن مدينة صناعية مثل المحلة الكبرى فى مصر، يمكن أن تنشئ مهرجانا سينمائيا، ويسعى عمال مصانع غزل المحلة -مثلا- وذووهم، لجعل إجازاتهم السنوية فى موعد انعقاده السنوى، كى يتسنى لهم حضور عروض المهرجان؟!
لا شىء بعيدا، فمدينة كليرمون فيران، المدينة العمالية المليئة بالمصانع وأشهرها مصنع إطارات السيارات «ميشلان»، تتحول فى بداية شهر فبراير من كل عام إلى قبلة للسينما والسينمائيين.. يخلع عمالها «الأفرول» محتشدين مع ذويهم حول الشاشات الأربع عشرة التى تعرض أفلام مهرجان كليرمون فيران السينمائى الدولى للسينما القصيرة.
مهرجان كليرمون فيران بدأ كفكرة عام 1979 من أعضاء الحلقة السينمائية الجامعية C.C.U.C للمدينة.. الذين كانوا ينظمون أسابيع للأفلام القصيرة، ثم تحول إلى جمعية «Sauve qui peut le court métrage» أو «أنقذوا الفيلم القصير»، ولقى المهرجان دعما من مؤسسات الدولة إلى أن أصبح دوليا، بل وأصبح الأهم عالميا للفيلم القصير، حتى إنهم يطلقون عليه لقب «مهرجان كان للفيلم القصير».
الأحلام الكبيرة تولد صغيرة ولا تحدها الظروف ولا الإمكانات ولا الأماكن، فآخر ما كان يتصوره سكان المدينة الصناعية تلك، أن تكون بلدهم محط أنظار فنانى العالم وعشاق السينما، وآخر ما كان يتوقعه مؤسسو المهرجان أن يصبح العمال وطلاب الجامعات من سكان هذه المدينة، متذوقين للسينما وشغوفين بها إلى هذا الحد، فالناقد السينمائى اللبنانى هوفيك حبشيان الذى يغطى أنشطة المهرجان منذ سبعة أعوام، كتب:
«أفلام كثيرة لسينمائيين ذهبوا إلى مهرجانات كبيرة مثل كان، نالت فى مهرجان كليرمون فيران جائزة الجمهور.. أفلام للمخرجين العالميين: مايك لى وتوماس فينتربرج وجان بيار جونيه.. كلهم صفّق لهم المشاهدون، فى إحدى الدورات السابقة لمهرجان كليرمون فيران.. هذا الجمهور الذى يأتى إلى المهرجان بأعداد هائلة مُشكّلًا الضمانة الكبرى لحدث لما كان أبصر النور من دون دعم السكان المحليين له».
تلك هى زيارتى الثانية لمهرجان كليرمون فيران على التوالى، منذ زيارتى الأولى، أحببت المدينة، وتأكد حبى لها فى الزيارة الثانية، مع موعد انعقاد الدورة السادسة والثلاثين لمهرجان كليرمون فيران تأكد انطباعى الأول.. مدينة هادئة، قد تبدو مملة للوهلة الأولى، لكن السينما تثير فيها الصخب، فبريق الفن السابع يلمع من عيون كل سكان المدينة الصغيرة.. بداية من الطائرة التى تقلك من باريس إلى كليرمون فيران، ستكتشف أن كل الركاب متجهون إلى مهرجان السينما، التاكسى الذى أقلنى من المطار إلى الفندق -مثلا- كان يحمل معى ثلاثة آخرين من جنسيات مختلفة، متجهين إلى فنادق قريبة من مقر المهرجان لحضور أنشطته، وقد اقتسمنا الأجرة معا.
جميع الفنادق كاملة العدد وبوسترات المهرجان ستصاحبك من المطار مرورا بالشوارع وليس انتهاء بالمطاعم والفنادق.. المدينة تتنفس سينما، والجمهور شغوف.. كل الطرق فى هذه المدينة تؤدى إلى المتعة.
حضرت إلى المهرجان -هذا العام- فى ثالث أيام انعقاده.. الطوابير أمام دور العرض، تثير البهجة.. فيها العجائز والشباب، وهناك طوابير خاصة لعروض أطفال المدارس.. لا ضجر ولا استياء من الانتظار، فالقاعات قليلة والجمهور الباحث عن متعة السينما كثير.. كم تمنيت أن أشاهد هذا الكم من الجماهير -فى مصر- محتشدا وشغوفا لمشاهدة أفلام مختلفة، لا محتشدا لمشاهدة «عبده موتة» و«القشاش» أيام العيد، فلا جمهور كليرمون فيران مثقف ومختلف، ولا جمهور سينما الأعياد فى مصر أقل وعيا منه، فما الذى ينقصنا لحشد الجمهور لفن خالص وجاذب دون انحطاط؟! لماذا لم يتمكن مهرجان الإسماعيلية للسينما القصيرة، منذ بدايته وحتى دورته السادسة عشرة العام الماضى من اجتذاب سكان مدينة الإسماعيلية للتفاعل معه، مثلما يحدث فى كليرمون فيران؟! هل تكمن المشكلة فى الجمهور أم المنظمين أم فى الدولة نفسها؟! أعتقد أنها أسئلة يجدر بالمهتمين الإجابة عليها، وإلا «فبلاها» مهرجانات فى مصر، إذا كانت لا تتفاعل مع الجمهور ولا يتفاعل معها الجمهور.
استقبل مهرجان كليرمون فيران فى دورته السادسة والثلاثين المنعقدة فى الفترة من 31 يناير إلى 8 فبراير، ما يقرب من الـ7700 فيلم من 123 دولة، موزعة على أقسامه المختلفة، من بينها 73 فيلما فى المسابقة الدولية، تشارك فيها مصر بفيلمين هما «رغم أنى أعرف أن النهر قد جف» إخراج عمر روبرت هاملتون، وهو إنتاج مصرى فلسطينى بريطانى، وفيلم «ورديات يناير» إخراج عماد مبروك. بينما تضم مسابقة الأفلام الفرنسية ستين فيلما، وتضم مسابقة «لابو» للأفلام التجريبية 29 فيلما، إضافة إلى الأفلام المعروضة فى سوق المهرجان وفى باقى أقسامه الأخرى.
أول من أمس وبعد وصولى بساعتين توجهت إلى دار عرض جان كوكتو لمشاهدة أفلام المجموعة التاسعة لأفلام المسابقة الدولية.. تضم أفلام المجموعة خمسة أفلام، وهى «أولجا» من أسيتونا، وفيلم «the boy» من كوريا الجنوبية، وفيلم إسبانى برازيلى، ثم فيلم أيرلندى فنلندى عنوانه «ghost train»، وأخيرا فيلم أمريكى إسبانى عنوانه «sequence»، فلماذا يحتشد كل هذا العدد من جمهور المدينة المحلية الفرنسية التى لا يتجاوز عدد سكانها الـ145 ألف نسمة، فى قاعدة عرض قوامها نحو 1300 مشاهد، امتلأت عن آخرها، لمشاهدة أفلام لا تمت للثقافة الفرنسية بصلة؟!
لاحظ يا من تقرأ كلماتى أننى لا أملك إجابة عن تساؤلاتى.. فلا أنا أعرف لماذا يتجاوب جمهور عادى ترتدى بعض فتياته تيشيرتات بصور لشاكيرا، بينما يرتدى بعض شبابه معاطف تحمل صور جاكى شان وويسلى سنايبس! وعائلة سيمبسون، وبعض العجائز يتناولون «ساندوتشات» فى دور العرض، مع بعض من صناع السينما القصيرة وعشاقها والصحفيين والمراسلين من كل أنحاء العالم.. كما أننى لا أعرف لماذا لا يتفاعل جمهورنا فى مصر مع مهرجانات السينما؟!
لا أعتقد أن جمهورهم واع وجمهورنا غير واع، ولكنى أظن أن جمهورهم شغوف.. يبحث عن المتعة، ويجد من يحققها له، وجمهورنا مرهق ومتعب ومكتئب، ولا أحد يمد له يدًا لانتشاله من الكآبة.. جمهورنا يصطدم بالمتعالين المتأففين، ولذا فإنه يتجنبهم تماما، حتى إنه يقاطع أنشطتهم ويسخر منها ومنهم، وينتصر لكل ما يكرهونه.. جمهور كليرمون فيران من العمال والطلاب والعاديين من البشر، وجد من يحتضنه ويهتم به، فبذل مجهودا ضخما لإنجاح من سعوا لإسعاده واهتموا به.
غدًا تغطية جديدة لأنشطة مهرجان كليرمون للسينما القصيرة فى دورته السادسة والثلاثين.