لا يزال قلمى يسكن على شاطئ أم كلثوم فى ذكرى رحيلها، كنت أطل معكم فى هذه المساحة أمس على أم كلثوم والزمن، غابت عنا كوكب الشرق قبل 39 عامًا ولا يزال البعض ينتظرها، فى الحقيقة لا يمكن أن تتقبل الذائقة الآن حالة كلثومية أخرى، فلدينا مثال صارخ آمال ماهر، «كلثومية» الصوت والأداء إلى أبعد درجة، ولكنها لم تقترب من مشاعر الناس إلا بعد أن عثرت على نغمة وأداء عصرى يليق بالألفية الثالثة، كان مكتشفها الموسيقار الراحل عمار الشريعى يريد استنساخ أم كلثوم «2000» ولكنها وجدت نفسها حين تحررت من قيد الشريعى، وبالفعل صارت الآن تشكل رقمًا لا يمكن تجاهله على الخريطة الغنائية العربية.
هذه المرة أطل على «أم كلثوم والسلطة»، كلنا نتابع حالة اللهاث التى بات عليها الفنانون والمثقفون صوب توجههم للمشير السيسى، الأغلبية التى من الممكن وصفها بالمطلقة تقف فى الصف وتعلن ولاءها وتغنى فى «الكورس» للقادم بقوة إلى القصر، تقريبًا بلا منافس بعد أن تراجع كل من فكر أو حاول أو حلم.
تجاوزت كلمات الأغانى الحد المسموح، وصلنا إلى الخضوع المطلق والرجاء الذى لا ينقطع فى أن يقبل ويكمل جميله.
دائمًا يقولون إن أم كلثوم فعلتها، وغنّت للملك فاروق ثم لجمال ورفضت الغناء للسادات، ودليلهم أنها لم تغن لانتصار أكتوبر، الحقيقة أنها كانت حتى بدايات عام 73 قادرة على الصعود إلى خشبة المسرح، ثم لم تسعفها صحتها، وآخر أغانيها «حكم علينا الهوى» سجلتها فى الاستوديو، وكانت بالفعل حريصة على أن تغنى لأكتوبر، الغناء لعبد الناصر كان مرتبطا بآمال عشناها حتى 67، واستفقنا بعد الهزيمة وغنينا للوطن المجروح «عدى النهار» نموذجًا.
السادات حكم مصر المهزومة فلم يغنوا باسمه وغنوا له بعد انتصار 73، وللتوثيق غير صحيح أن عبد الحليم حافظ فى أغنية «عاش اللى قال» لم يذكر اسمه مباشرة، السادات هو الذى طلب ذلك عندما عرض عليه وزير الإعلام الأسبق عبد القادر حاتم، الأغنية قبل إذاعتها، فوجد بحاسته الأدبية أن «عاش اللى قال» أجمل، لأن كل الناس تعرف أن السادات هو اللى قال، ملحوظة: أرجو أن يتم توثيق هذه المعلومة من كل من وزير الإعلام الأسبق والإذاعى وجدى الحكيم الذى كان مشرفًا فى تلك السنوات على التسجيلات الغنائية، فلم يكن حليم ولا أم كلثوم، قادرين على تحمل تبعات تجاهل الرئيس. لاحظ أننا نتحدث عن زمن كانت الدولة تمتلك فيه كل المنافذ، أى أن غضب السلطة يعنى الحكم بالإعدام على الصوت، أما الآن فإن هناك دائمًا منافذ أخرى.
سيدة الغناء العربى كانت حاضرة بقوة فى ثورتى «25 يناير» و «30 يونيو» حيث أعادت الفضائيات قصيدة «أنا الشعب» التى كتبها الشاعر كامل الشناوى ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكأنها توجه تحية من العالم الآخر إلى مصر الثائرة.
كان هذا هو الوجه الإيجابى للصورة، أما الوجه الآخر فإن البعض وجد فى أم كلثوم شماعة لمنافقى السلطة بحجة أنها غنت للملك فاروق ثم بعد ثورة 23 يوليو غنت لعبد الناصر، وهو ما يبرر للمنافقين غناءهم ورقصهم فى عهد مبارك، ثم تأييدهم بعد ذلك للثورة، وصولا إلى الغناء للسيسى.
والمقصود بالغناء ليس فقط الذى يقع تحت طائلة قانون «يا ليل يا عين»، ولكن الأحاديث التى يدلى بها العديد من النجوم الذين كانت السلطة تعتمد عليهم، سواء فى الدعاية لحسنى مبارك فى ولاية سادسة، أو فى التمهيد لجمال مبارك رئيسًا خلفًا لوالده. كل هؤلاء تشعبطوا فى قطار أم كلثوم واستندوا إلى مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة عندما قامت الثورة فقرر أحد الضباط الصغار منع صوتها من الإذاعة المصرية بحجة أنها غنت للملك فى العهد البائد فقال عبد الناصر إذن امنعوا أيضًا النيل، لأنه من العصر البائد.
الغريب أن من غنوا لمبارك أو نافقوه فى أحاديثهم صاروا هم الأعلى صوتًا بعدها دفاعًا عن ثورة 25 ثم 30، وفى نفس الوقت يرفعون فى وجه كل من يذكِّرهم بالذى مضى حكاية أم كلثوم. الزمن تغير من عصر «فاروق» إلى زمن «السيسى» ولكن قطار النفاق لا يزال منطلقًا!