السطور التى ستقرؤها حضرتك حالا سبق أن نشرتها هنا يوم السبت الموافق 11 مايو العام الماضى، أى عندما كنا لا نزال نكابد حكم عصابة الإجرام الإخوانية. واليوم أعيدها على القراء الأعزاء وأهديها معهم إلى الأستاذ الكبير فهمى هويدى الذى نشر فى هذا التاريخ نفسه مقالا هاجم فيه بعنف فضيلة شيخ الأزهر بذريعة أن الرجل، الذى ناصبه «إخوان الأستاذ فهمى» العداء، زار أقطارا عربية خليجية ليس من بينها قطر(!!) أما لماذا أهديها إلى هذا الأستاذ بالذات؟! فلكى يعرف سيادته حقيقة أن عندنا ذاكرة وأن التاريخ لا يموت ومن ثم فإنه من الصعب جدا إقناعنا بصدق اهتمامه المفاجئ الحالى بقضايا حقوق الإنسان.. وإلى السطور القديمة:
.. السيدة نافى بيلاى المفوضة السامية لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، اختصرت ببلاغة وعمق حالتنا الهباب الراهنة بينما نحن نرزح تحت وطأة حكم (جماعة الشر) السرية، عندما قالت فى بيان رسمى مهم ومفصل أُذيع يوم الثلاثاء الماضى إن «مصر تنجرف (بسرعة) بعيدا عن المبادئ والمُثل العليا التى كانت قوة الإلهام لثورة 25 بناير»، معتبرة أن المصريين يواجهون «وضعا أخطر مما كان قبل (الثورة) إذ تتكاثر مخاوف الناس ومعاناتهم من اعتداءات وانتهاكات متنوعة وواسعة النطاق لحقوقهم السياسية والاجتماعية تشى باندفاع حثيث نحو نظام ديكتاتورى» جديد!!
ورصدت بيلاى فى البيان الذى مهرته بتوقيعها، قائمة طويلة من الظواهر والأسباب والأدلة التى تقطع بأن مصر دولةً ومجتمعا وبشرًا يجرى فعلا سحبها الآن وجرجرتها عنوة إلى ظلام الفاشية والديكتاتورية فى مفارقة تاريخية محزنة، لأن الملايين من خلق الله حلموا علنًا فى أثناء الثورة ببناء مجتمع جديد يتقدم وينهض على قيم العدل والحرية والمساواة، فإذا بجماعة سرية همجية وجاهلة تكره وتعادى كل منجزات الترقى والتحضر الإنسانيين، تختطف منهم ثورتهم النبيلة وتسحق أجمل الأحلام وأنبل الأهداف بقسوة وجلافة مروِّعَين.
لقد بدأ البيان رصْد معالم المخاطر الداهمة التى تهدد حقوق المصريين وحرياتهم، بمشروع قانون الجمعيات الأهلية الذى جرى طبخه على مقاس «جماعة الشر»، محذرا من أنه لو تم تمريره على هذه الشاكلة فسوف «يكون قيدا ثقيلا وشديدا على أنشطة منظمات المجتمع المدنى يجعلها (مشلولة) لا تقوى على لعب الدور المحورى والحيوى الذى يفترض أن تلعبه فى عملية بناء المستقبل الديمقراطى للبلاد، وسيشكل ضربة أخرى للآمال والتطلعات التى راجت وانتعشت (أيام) الثورة».
ومضى البيان بعد ذلك يعدد صور المخاطر والاعتداءات الفاحشة والسافرة على آمال المصريين وأحلامهم فتحدث عن «الدستور الجديد والطريقة (الرديئة) التى جرت بها صياغته وتمريره، إضافة إلى المحاولات الواضحة والمتكررة للتغول على سلطة القضاء»، مشيرا فى هذا السياق إلى أن هذا «الدستور يعطى السلطة التنفيذية سطوة مفرطة على السلطة القضائية من خلال (مثلًا) منح رئيس الجمهورية حق التعيين المباشر لقضاة المحكمة الدستورية العليا، مما يعد تقويضا خطيرا لمبدأ استقلال القضاء»!
وجاء فى البيان عيْنه أن المفوضية الحقوقية الدولية تتابع بقلق «وعن كثب التطورات الخطيرة الأخيرة بما فى ذلك (مئات البلاغات) والإجراءات التى تستهدف كل من يستخدم حق التعبير سواء كانوا متظاهرين سلميين أو صحفيين أو نشطاء سياسيين»، ولاحظ أنه «فى الوقت الذى تتم فيه هذه الإجراءات بنشاط وكثافة شديدين فإن المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وارتكبوا جرائم خطيرة مثل القتل والتعذيب وسوء المعاملة فى السجون ومراكز الاعتقال (وعلى رصيف القصر الرئاسى) فضلا عمن قاموا بعمليات اغتصاب وتعديات جنسية ممنهجة ومنظمة وصارخة، أغلبهم لم يتم التحقيق معهم ولا مَثلَوا أمام العدالة»!!
و.. أختم هذه السطور بأن السيدة نافى بيلاى ليست من النوع الذى يسهل أو ينفع أساسا اتهامه بالتهمة البذيئة الجاهزة والموروثة من مخلفات نظام مبارك وولده، أى رميها بأنها «غربية استعمارية» تسعى لتشويه سمعة مصر (كل الحكام المنحرفين المجرمين بيسمّوا نفسهم «مصر») فهذه القاضية الجليلة ليست من الغرب أصلا وإنما تحمل جنسية جنوب إفريقيا وتنحدر من عائلة هندية، وقد راكمت خلفها تاريخا مهنيا مشرفا ومرموقا جدا، إذ كانت أول امرأة ملوَّنة يتم تعيينها قاضيا فى المحكمة العليا فى بلادها بترشيح من المناضل الأسطورى نيلسون مانديلا عندما كان أول رئيس أسود بعد انتصار الشعب الجنوب إفريقى واندحار نظام الفصل العنصرى فى هذا البلد، ثم اختيرت بعد ذلك ضمن قضاة المحكمة الجنائية الدولية، وكلفت برئاسة المحكمة الأممية التى شكلتها الأمم المتحدة لنظر قضية جرائم الإبادة الجماعية لمئات البشر فى دولة رواندا، قبل أن تختتم مسيرتها الحافلة بمنصبها الحالى كمفوض سامى لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة.
فأما التشويه الحقيقى لسمعتنا، وما من شأنه أن يلوثها ويمسح بها وسخ الأرض، فهو استمرار بقاء كل هذا العار والشنار جاثمًا على صدورنا وقلوبنا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.