ماذا لو ولدت مجددا أم كلثوم فى 2014؟ سوف تعتبرها الذائقة الفنية الشعبية خارج نطاق الزمن، نتعامل مع صوتها بوقار وتقدير ولكن بلا دفء أو سخونة.
كثيرا ما ننتظر أم كلثوم وأحمد شوقى وطه حسين وجمال عبد الناصر، وننسى أن هؤلاء أبناء عصر بمفردات ومقومات أخرى. هتلر تحقق فى عصر سطوة الراديو، فكان له كل هذا الحضور عبر التاريخ، قبل أن يختفى مع بزوغ عصر التليفزيون، قوته فى نبرات صوته، بينما تفضحه ملامحه، وهو ما يمكن أن تراه فى تحوله مع الزمن إلى كاريكاتير رغم أنه فى الواقع كان مهاب الطلعة.
أم كلثوم هى ابنة الميكروفون، نعم كان صوتها قويا بلا مساعدات صوتية، لو كان فقط الفيصل هو قدرة الصوت لتفوقت عليها فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى سلطانة الطرب منيرة المهدية. أم كلثوم كانت تجمع فى صوتها بين الجمال والكمال، وساعد الميكروفون على ذيوع جمال النبرة، ولهذا ظلت مترددة فى التعامل مع كاميرا التليفزيون، وكانت لها شروطها بمسافة تبتعد فيها الكاميرات، فهى تنتمى «جينيا» إلى الميكروفون.
ليلى مراد مثلا هى ابنة زمن كاميرا السينما، التى تعنى صوتا وصورة وحضورا، سنكتشف أن 70% من رصيدها هو أغانى الأفلام فهى ليست مطربة ميكروفون.
اليوم الذكرى رقم 39 على رحيل أم كلثوم، وسوف تمنحها «الميديا» الإعلامية كل ما هو متاح من مساحات، من الضرورى بل والصحى أيضا أن تعيش كل المجتمعات أحاسيس، «النوستالجيا»، الحنين إلى الماضى، على شرط أن تصبح أشبه بومضات تأتى على فترات، ويظل اليوم والغد هو الذى نعيشه أو نحلم به. عالمنا العربى يعيش فى الزمن الماضى أكثر من الحاضر، لدينا دائما أحكام مسبقة نرددها حتى دون أن نتأكد من صحتها. الكل يقول أفلام الأمس هى العصر الذهبى للسينما، ونقصد به بالطبع الخمسينيات، وعندما تسأل أحدا عن مطربه المفضل يقول لك على الفور عبد الحليم حافظ، على اعتبار أن حليم هو آخر صيحة فى الغناء. أما المطربة المفضلة فإنها ولا شك أم كلثوم، ولكن هل حقيقة بعد عبد الحليم وأم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وفريد الأطرش لم يظهر فى الساحة مطرب أو مطربة يعشقه الجمهور؟
الإبداع هو ابن الزمن، وكما يتغير إيقاع الحياة يتغير أيضا إيقاع الناس. كان محمد عبد الوهاب مرفوضا كمطرب فى الثلاثينيات، لأنه جاء بأداء وبألحان مغايرة لمن سبقوه مثل عبده الحامولى ومحمد عثمان وكامل الخلعى وصالح عبد الحى. كذلك كان عبد الحليم مرفوضا فى الخمسينيات، لأنه تمرد على أسلوب أداء عبد الوهاب. ومن المؤكد أن جيل تامر حسنى يختلف تماما عن جيل عبد الحليم. والمأزق أننا نستمع إلى تامر بقانون عبد الحليم، ونتابع نانسى عجرم ونحن نريدها أن تُمسك بمنديل أم كلثوم!!
لو ذهبت إلى مقهى أم كلثوم فى وسط العاصمة لوجدت أن صور أم كلثوم على الجدران، لا تزال تشهد على عظمة هذا الصوت، وأن المقهى لا يقدم سوى أغنياتها، لكن صوت «قواشيط» الطاولة بات يعلو على صوت «آهات» أم كلثوم، كانت تقاليد هذا المقهى حتى الثمانينيات تقضى بأن يأتى الرواد للاستماع فقط.
لم يكن هناك «new look» كان أقصى ما يفعله المطرب هو أن يرتدى بذلة وقميصا على الموضة.. الآن المطرب يغير ملامحه مع كل شريط، وتابعوا عمرو دياب الذى يطل علينا مرة بذقن وأخرى من دون، مرة بشعر أسود وأخرى أصفر، نراه نحيلا ثم نجده مثل مصارعى الأوزان الثقيلة. لم يكن فريد ولا عبد الحليم ولا فوزى ولا نجاة ولا فايزة مسموحا لهم بأى شىء من هذا القبيل، ولو فعلها أحدهم لاتّهم بأشياء عديدة أقلها الجنون، الآن المطرب الذى لا يتغير هو الذى يُتهم بالجنون!!
جميل أن نعود بين الحين والآخر إلى ماضينا ونستمتع بالأفلام والأغنيات القديمة، على أن يصبح ذلك أقرب إلى الزيارة الخاطفة، ونعود مسرعين إلى الزمن الحاضر نقيم فيه، من يدير ظهره للزمن يعيش خارج الحياة يردد وحيدا «عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك» والناس حوله تردد لنانسى «يا ابنى فك خليك طبيعى»!