كلما زادت البذاءات التى يبثها الإعلام ليل نهار تشبثنا أكثر بطوق النجاة، ورددنا بصوت جماعى «أين ميثاق الشرف الإعلامى؟»، حتى خارطة الطريق تضمنت بندًا لتنظيم إعلام السداح مداح، أخشى أن أصدمكم بتلك الإجابة، وهى أنه لا ميثاق ولا ألف خارطة من الممكن أن يواجه ما نعيشه الآن، حيث إننا نتعرض لحوالى 700 فضائية عربية تبث إرسالها على مدى 24 ساعة يوميًّا، ولا يمكن لأى جهاز رصد أن يلاحقها، علينا أن نزرع داخل البيت القدرة على الاختيار، انتهى زمن السلطة الأبوية التى كانت تمارسها الدول على شعوبها، وتتولى هى الإباحة والمنع بدلا منهم، أصبحنا نعيش فى زمن «الريموت كونترول».
لا أنكر بالطبع أن ما تبثه «الميديا» يشكل جزءًا كبيرًا من ثقافتنا، وحتى سلوكنا الشخصى، استمعت مرة إلى الأديب الكبير الراحل د.يوسف إدريس كان يحكى أنه فى شبابه تعلم أن يضع علبة السجائر فى الشراب بعد أن شاهد محمود المليجى يفعل ذلك فى أحد الأفلام، فأصبحت علبة سجائره منذ ذلك الحين لا تعرف سوى هذا الطريق.
تشن بين الحين والآخر الفضائيات التى صارت هى المصدر الرئيسى لحالة الانفلات اللفظى والحركى زخات مكثفة من المسلسلات والبرامج، التى يتباهى صُناعها بأنهم يقدمون آخر صيحة فى دنيا الإسفاف، وكأن من يقف أمام الكاميرا متحدثًا أو ممثلًا يعتقد أن الشتائم هى الطريق الوحيد المضمون للفت الانتباه للوصول إلى قاعدة جماهيرية أوسع، والغريب أن أغلب من يهاجمون تلك البرامج والمسلسلات تكتشف أنهم صاروا مدمنين لها. هل نُحمل «الميديا» تبعات المسؤولية كاملة، حيث تنقل الشاشة السلوك للشارع فى نفس اللحظة التى تستقى فيه مفرداتها من الشارع؟
قبل نحو ما يزيد على عشرين عامًا أخرج أوليفر ستون فيلمه «ولدوا ليقتلوا» ينتقد فيها وسائل الإعلام وكيف أنها أصبحت المصدر الرئيسى لعنف المجتمع، فبات أكثر دموية، استند المخرج إلى دراسة أكدت زيادة ملحوظة فى السنوات الأخيرة للجينات البشرية المحفزة للعنف.
العلاقة كانت ولا تزال تبادلية بين الشارع والشاشة، تنقل «الميديا» ما يجرى فى الشارع ثم تصدره للناس وكأنها تعيد تدوير البضاعة، عدد من الجرائم تم تنفيذها مباشرة محاكاةً لفيلم أو مسلسل، كما أن بعض أساليب تعاطى المخدرات كانت الشاشة هى الوسيلة المضمونة لمنحها علامة «الأيزو».
علينا ملاحظة أن كلمات مثل «حضرتك» و«أفندم» و«بعد إذنك» و«لو سمحت» و«عفوًا» وغيرها، يبدو أن عمرها الافتراضى قد انتهى من قاموس التعامل اليومى، ومن لا يزال حريصًا عليها صار فى عرف هذا الزمن «أنتيكة»، أصبحنا نتعامل ببساطة وأريحية مع كلمات مثل «فشخ» و«أمك» و«حمرة» صرنا نترحم على زمن «بلح» و«نفض» و«كبر»!
لو قلبت فى صفحات الدراما ستكتشف أن أشهر عبارة أحدثت ضجة فى العالم العربى ووصفت وقتها بالانفلات هى تلك التى أطلقتها فاتن حمامة فى فيلم «الخيط الرفيع» فى منتصف السبعينيات «ابن الكلب» التى نعتت بها محمود ياسين فى حوار ساخن، كان من المستحيل العثور على مرادف لفظى آخر، وكان عبد المنعم إبراهيم قد سبقها فى فيلم «بين القصرين» عندما اكتشف أن والده يحيى شاهين يرقص مع العوالم، فقال بخفة ظل «يا ابن الكلب يا بابا»، إلا أن الذى حدث بعدها هو أن البعض طالب بالمعاملة بالمثل، ورأينا سيلًا عارمًا من ابن الكلب وأخواتها.
الناس بطبعها تكره المزايدة، والحكمة تقول «الفضيلة تقع بين رذيلتين الإفراط والتفريط»، وهكذا بقدر ما أرفض تلك الأعمال التى تبدو مهذبة لدرجة التعقيم، فأنا أرفض أيضًا الإسراف الذى يصل إلى حد الإسفاف، النوعان مرفوضان سواء تلك التى تتدثر بغطاء من أوراق «السوليفان» أو الأخرى التى تبدو وكأنها قد تخلصت تمامًا حتى من ورقة التوت.
لا نستطيع أن نعزل الشاشة عما نراه فى الشارع، ولا أن ننكر أن الدراما أيضًا أثرت فى لغة الشارع. إنهما وجهان لعملة واحدة، ولا أتصور أن ميثاق الشرف الإعلامى من الممكن أن يملك آليات للمواجهة، بعد أن أنجب الانفلات مزيدًا من الانفلات، علينا أن نتعلم كيف نختار بالريموت، لكن من ينتظر أن يعثر فى الإعلام عما يطلقون عليه ميثاق الشرف عليه أن يتعلم على سبيل الاحتياط لغة هذه الأيام يتعلمها فشخ و«فشخ تعنى جدًّا»!