العبد لله كتب وقال بدل المرة ألف مرة على الأقل، إن أصحاب العقول والألباب لا بد أن يتفهموا ويقبلوا تلك الحقيقة العارية التى تقول: إنه ضمن الأثمان الباهظة التى ندفعها حاليا لكى نفوز بالنصر فى الحرب الإجرامية القذرة التى تشنها علينا «دولة ومجتمعا» عصابات القتلة من الإخوان وأتباعهم، أننا مضطرون «مثل كل مجتمعات الدنيا شرقا وغربا» إلى التوسل بشىء من الاستثنائيات بدل السير الطبيعى العادى فى طريق ترسم أصول الديمقراطية ومتطلباتها معالمه وتوسع حدوده.. يعنى باختصار، نحن مجبرون الآن على ابتلاع قدر من الاستثناء حتى نستطيع أن نواجه وضعا غير طبيعى ولا سابق له فى تاريخنا الحديث كله، وأن نَعبر بسلام ونغير ونحسم واقعا بالغ الحساسية ومتفجرا بالمخاطر وفريدا جدا فى استثنائيته.
وقبل أن أدخل فى عرض الملاحظة المحزنة التى حرضتنى على كتابة هذه السطور، فإننى أجد من الواجب الاعتراف بأن هذا «الاستثناء» المكروه الذى فرض علينا جاء فى وقت ومرحلة مفرطة فى التعقيد والحساسية، لأنها كانت يجب أن تكون جسر انتقال آمن من ماض مظلم أليم إلى مستقبل نتمناه زاهيا مشرقا، وكان الأمل أن ننشغل فيها بمعركة بناء المجتمع والوطن الجديد الذى تهفو أرواحنا لرؤيته ناهضا متقدما ينعم فيه الناس بالعدالة والمساواة والحرية الطليقة من القيود والاستثناءات.. هنا تتجلى حقيقتان، أولاهما أن العصابة الفاشية المجرمة تهدف من حربها القذرة الحالية علينا أن تستكمل مهمة إفساد وتعويق وتخريب تطورنا السياسى والمجتمعى، وهى مهمة بدأتها هذه العصابة منذ ولدت واقتحمت بالعنف والبلطجة والخراب العقلى والروحى دنيانا قبل عشرات السنين.
فأما الحقيقة الثانية فخلاصتها أن هناك فعلا خطرا قد ينجم عن التوسل الاضطرارى فى هذه المرحلة بالاستثناءات، لأن بعضها ربما يستقر ويكتسب قوة ملامح الشىء «العادى» لا العارض والعابر والمؤقت.
أظن أن معنى الكلام واضح ومفهوم، وهو يقودنى إلى الملاحظة التى استوقفتنى «مع كثيرين غيرى» وحركت نوازع القلق فى صدور قطاع لا بأس به من المخلصين، ولست أقصد كل عناصر ومكونات المناخ الغوغائى الذى نعيش تحت وطأة ضجيجه الرهيب هذه الأيام، وإنما واحد فقط من هذه المكونات ألا وهو تحويل استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبل إلى شىء أشبه بزفة «المبايعة» الكذابة التى كنا نكابد مظاهرها الرديئة أيام نظام المخلوع أفندى وولده.
أتفهم وأفهم أن الوضع الاستثنائى الحالى المضمخ برائحة الدم والمزدحم بأسباب الشعور بالخطر من استمرار وتصاعد العربدة والتخريب والإجرام من كل نوع، قاد القطاع الأوسع من جماهير شعبنا إلى تفضيل «خيار رئاسى» بعينه لا يخلو من معقولية ولا يفتقر إلى وعى عميق بأن المطلوب ورأس الأولويات الآن أن يتمكن البلد من الصمود فى الحرب، وأن يستجمع عناصر قوته كافة، ومنها تماسك مؤسسات الدولة وتأكيد قدرتها على فرض احترام القانون والنظام، وهزيمة عصابات الأشرار ودحر مشروعهم الإجرامى المدعوم من قوى خارجية غاشمة، بعضها عظيم العداء وشديد التوجس من نجاحنا فى إقامة صرح الوطن المتقدم، الذى من أجله صنع المصريون معجزة تفجير ثورتين عارمتين فى أقل من ثلاث سنوات.
غير أن المشكلة ليست أبدا فى أن أغلبية الناس استبقت الاستحقاق الانتخابى الرئاسى الرسمى بإعلان انحيازها وتفضيلها والجهر بأنها تعلق آمالها وأحلامها المشروعة كلها على شخص معين هو المشير عبد الفتاح السيسى، وإنما مشكلتنا ومشكلة المشير «لو أعلن ترشحه فعلا» أن البعض -بسوء نية أو حسن نية، لست أدرى- التقط هذه الواقعة التاريخية وراح يلعب ويتلاعب بها بالطريقة نفسها التى تعود عليها ولا يعرف غيرها، إذ بدا كأنه يجاهد ويعافر لإجراء عملية «تغيير جنس» للمشهد الانتخابى المنتظر، بحيث يخرج منها قبيحا مشوها تكاد ملامحه تتطابق مع ملامح أيام التزوير العمومى وحفلات الرقص الجماعى الدورى على مسرح الاستبداد والفساد!
آية ذلك، ليس فى الواقع آية واحدة وإنما عشرات الآيات والمظاهر، ربما أفظعها وأشدها ضررا تلك الحملات المسرفة فى البذاءة والغباوة التى تستهدف بالردح والتشهير كل من يتردد اسمه، باعتباره مرشحا محتملا قد ينافس المشير السيسى فى الانتخابات المقبلة، كأن المشير سيسعده أو يفيده أو يفيدنا أن يكسب انتخابات كان هو المرشح الوحيد فيها!!
صحيح أن بعض من تتردد أسماؤهم حاليا مقرفون جدا ومجرد ذكر سيرتهم يثير الرغبة فى الغثيان، لكن الصحيح أيضا أن خوض الانتخابات «إذا كانت كذلك» حق لكل من تنطبق عليه شروط الترشح، سواء كان من النوع المقرف أو من أى نوع آخر.
وأختم برجاء حار لقطيع الدببة الذين، بقصد أو جهل، يرقصون فى «الزفة» التى يفوق ضررها إزعاجها وقبحها، أن يخرسوا خالص ويحلوا عن سمانا، لأن الأمر جد لا يحتمل الهزل، والوضع خطر ولا يجوز فيه الرقص.. صباح الخير.