رغم تعدد أغراض الشعر العربى منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث، بين الهجاء والاعتذار والفخر والغزل والرثاء، فإن أكثر نوع برع فيه الشعراء كان المدح، خصوصا الموجه للحكام والسلاطين. وكان أشهرهم فى العصر الجاهلى النابغة الذبيانى الذى اشتهر بمدح النعمان بن المنذر، حتى قالوا عنه «كان النابغة يأكل ويشرب فى آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجدّه»، ومن أشهر أشعاره «فإنك شمس والملوك كواكب.. إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب».
أما فى العصر الحديث فقد استمر نفاق الحكام، وإن تغير الشكل من الشعر إلى الغناء، وإن كان أشهرها قصة فيلم «غرام وانتقام» عام 1944، عندما حضره الملك فاروق وكان من أغانى الفيلم أوبريت يمتدح أسرة محمد على مرورا بإسماعيل باشا، ثم الملك فؤاد، وحتى الملك فاروق، الذى أعجبته الأغنية وأنعم بعدها على يوسف وهبى بلقب البكوية باعتباره مخرج الفيلم.
ويقال إن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب لحن بعدها أغنية الفن التى قامت بغنائها ليلى مراد، وظهر جزء منها فى فيلم «الماضى المجهول» حتى يحصل على لقب هو الآخر، لكن ذلك لم يحدث، وتبدأ الأغنية بـ«الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها» قبل أن تنتهى بـ«الفن مين ينصفه غير كلمة من مولاه/ والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه». ورغم أن البعض قد يتصور أن بداية التغنى بالرؤساء كانت بعد ثورة يوليو، فإننا سنجد كثيرا من الأغانى تغنت بالملك فاروق. لكن معظم هذه الأغانى تم حذفه من نسخ الأفلام، ومنها مثلا أغنية نشيد ميلاد الثورة لأم كلثوم فى فيلم «نشيد الأمل»، التى جاءت بالتزامن مع تولى فاروق عرش مصر وهو فى السابعة عشرة من عمره، وتقول كلماتها «اجمعى يا مصر أزهار الأمانى يوم ميلاد المليك/ واهتفى من بعد تقديم التهانى شعب مصر يفتديك/ طلع السعد عليها يوم ناداها البشير قائلاً فاروق هلا». كذلك أغنية «يا ليلة العيد» التى غنتها أم كلثوم للملك أكثر من مرة، وأنعم عليها بعدها بلقب صاحبة العصمة، حيث تقول نهايتها «يا نيلنا ميتك سكر وزرعك فى الغيطان نور ويعيش فاروق ويتهنى ويحيى الفرح ليلة العيد». وحسب الناقد السينمائى الكبير محمود قاسم، فإنه تم طمس هذا البيت فى فيلم «دنانير» ولا يمكنك أن تسمعه أو تشاهده فى أى من النسخ التى تعرضها القنوات.
وإن كانت الأغانى التى تمدح الملك فاروق اقتصرت على أغانى الأفلام، فالأمر اختلف مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذى صنعت الأغانى، خصيصا من أجله، حيث تغنى محمد عبد الوهاب بأوبريت «ناصر كلنا بنحبك» وغنت له نجاة «أبو الثوار» ومحمد رشدى «أبو خالد» وأم كلثوم «حبيب الشعب» وصباح «إن شفت جمال». أما عبد الحليم حافظ فكانت له علاقة خاصة مع عبد الناصر بدأت بـ«حكاية شعب» التى يقول فيها «صرخة أطلقها جمال إحنا أممنا القنال»، وصولا إلى «شعب حققه له جمال الانتصار»، ثم أغنية «احنا الشعب» و«بستان الاشتراكية»، ثم «بلدى يا بلدى» و«صورة» و«ناصر يا حرية» و«بالأحضان» و«ذكريات»، وصولا إلى أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين». ومع الرئيس السادات اختلف الأمر، حيث سنجد ندرة فى الأغانى التى صنعت من أجله، ربما لأن الفترة التى جاء فيها تواكبت مع النكسة، ثم جاء نصر أكتوبر وكانت الأغانى الأكبر لفرحة الانتصار، حتى إن عبد الحليم حافظ حينما غنى «عاش اللى قال» لم يذكر اسم السادات، كما فعل فى أغانيه لناصر. إلا أنك ستجد استثناءين الأول هو أغنية سيد مكاوى «تعيش يا سادات»، والثانى مع فايدة كامل التى لقبت بـ«مطربة السلطة» نظرا لزواجها من وزير الداخلية الأسبق النبوى إسماعيل، القريب من عائلة السادات آنذاك، وأشهر أغانيها «ياسادات» التى قامت بغنائها فى مجلس الشعب، مطالبة بأن يكون السادات رئيسا مدى الحياة وسط عاصفة من التصفيق. والغريب بعدها أن السادات استجاب لها وقام بتعديل المادة 77 من الدستور ليفتح فترة الرئاسة إلى مدد متعددة بدلا من مدتين متتاليتين. ومع مبارك أصبح النفاق فى الأغانى له مذاق آخر، بداية من أوبريتات «أول طلعة جوية» و«اخترناك»، وحتى أغنيات وردة «البطل ده من بلادى»، و«يا مبارك يا حبيب الشعب»، مرورًا بأغنية شيرين «يا ريسنا»، وهانى شاكر «يا معلى راية الحرية»، ثم عمرو دياب «واحد مننا»، والتى استخدمت فيما بعد فى حملة ترشح حمدين صباحى للرئاسة.
ورغم كثرة أغنيات المدح والنفاق فإنها كانت تتغزل فى الرؤساء، لكن الغريب أن الأغانى الآن تتغزل فى مرشح للرئاسة. ورغم الظرف التاريخى والشعبية التى يتمتع بها وزير الدفاع عبد الفتاح السيسى، فإن أغانى النفاق صارت ظاهرة يجب التوقف عندها، خصوصا أن شخصية بذكاء السيسى يعرف جيدا أن مثل هذه الأغانى يكون ضررها أكثر من فائدتها، والأهم أنها تفتقد حس الصنعة الذى كان موجودا فى الأغانى السابقة، حيث تعانى من ضعف واضح فى الكلمات والألحان سواء أغنية «عايزينك يا سيسى» لبهاء سلطان وسومة، أو «كلنا بنحب السيسى» لشعبان عبد الرحيم، هذا لو تغاضينا عما يفعله إيهاب توفيق من لعب فج بالكلمات سواء بأغنية «الله عليك يا سيسى»، أو تحويله أغنية «أحلف بسماها» إلى «طول ما السيسى فوق الدنيا»، وربما كان سر النجاح الكبير لـ«تسلم الأيادى» أنها نجت من فخ نفاق شخص واحتفت بظرف تاريخى، وكانت فكرتها الاحتفال بالقوات المسلحة بشكل عام.
الأمر نفسه فعلته الفنانة سعاد أحمد، أو مدام حنفى، فى فيلم «ابن حميدو» حين وقفت تحتفل بتدشين الباخرة نورماندى تو، فهتف لها الصيادون «تعيش أم حميدة سيدة البحار» إلا أنها استوقفتهم قائلة «مش عايزة هتاف خاص عايزة هتاف عام»، فما كان منهم إلا أن هتفوا «يعيش البحر الأحمر المتوسط»!! فهل نتعلم من درس سيدة البحار أم نظل فى فخ «سيسى الدنيا»؟