مثل كل يوم أخذت فى يدى جردل المياه وتوجّهت به إلى الحمار الرابض فى مكانه لا عمل ولا حركة غير الأكل والنهيق عمّال على بطال، وضعت أمامه جردل المياه، نظر إلىّ نظرة طويلة فيها استغراب واندهاش وعدم فهم لحظات مرّت، ثم تحوّل بنظره إلى المياه المحدد إقامتها داخل الجردل، ثم أعاد النظر إلىّ وكأنه لا يوجد فى الزريبة غيرى.. نظرة طويلة.. كان يقول خلالها (ما هذا الذى عندكم هل يعقل بعد ما قمتم به وصنعتم المستحيل لصنع مستقبل أفضل لكم ولحيواناتكم يصل بكم الحال إلى تلك الحالة الضبابية؟!).. لا لا، ليست ضبابية، وإنما معتمة، لأنه يوجد فرق شاسع بين الاثنتين. فسألته مندهشًا، وأنا ما زلت واقفًا أمامه بجوار جردل المياه: وما الفرق؟ الفرق واضح تمامًا كما كان الفرق واضحًا تمامًا ما بين (نعم - ولا)، لكن فريق نعم استغبى استغباء الحمار الغشيم الذى يتعب نفسه ويكرّه صاحبه فى نفسه وفيه، وقد عمل فريق نعم المستحمر وهو يؤكد ويحلف بالطلاق بأن (نعم) هى الحل والخلاص. بالراحة علىّ أيها الحمار، حتى لا أتوه منك. حاضر، واحدة واحدة. أولًا الضباب أفضل من العتمة. أى الحالة الضبابية أفضل حالًا من الحالة المعتمة، لأن الضباب يسمح لك برؤية مساحة (ما) من الطريق الذى تسير فيه، مساحة تتوقف على كثافة الضباب، وتلك المساحة تجعلك تتحرّك فى طريقك نحو هدفك فى هدوء حتى تصل إلى ما تريده وتبغيه بعكس العتمة التى تمنعك أصلًا فى أن تفكر فى الخروج وتتوجّه إلى هدفك إن كان يوجد فى الأصل هدف.. وما أنتم فيه يا عزيزى هو العتمة التى فرضت عليكم بالأمر المباشر منذ 19 مارس 2011م، فهذا اليوم يؤكد أن الحمير أفضل حالًا منكم، كما أقول للحمير التى أقابلها كل يوم فى الشارع، نتناقش فى ما بيننا وفى ما يحدث لكم من خيبة ما بعدها خيبة يا بنى مصر، وفى أوقات كثيرة بتصعبوا علينا نحن الحمير.. وبنستحمل ما تفعلونه بنا من ضرب وإهانات ليس لها داعٍ، وبنقول أهو انتم بطلّعوا غِلُّكم فينا. فنحن الحمير لو ماكناش هنشيكلم مين هيشيلكم. نظرت فى أرضية الزريبة وجلست على حجر موضوع بجوار الحمار، لأنى لم أقدر على تحمّل الوقوف.. والحمار وضع (بوزه) فى جردل المياه ليشرب ويرفعه فجأة ويقول.. مندهشًا: تعرف، أنتم يا أهل مصر اللى بتحبوا مصر وبتخافوا على حدودها اللى من فلسطين شرقًا والبحر المتوسط شمالًا وليبيا غربًا والسودان جنوبًا.. كما تخافون على أملاككم الخاصة. بتفكرونى بحيوان يعيش فى خراسان.. اسمه (بعروا) بتفحل وبثمن على التعب والشقاء. حدقت فى وجه الحمار وقلت مندهشًا جبت الكلام ده منين. جبت الكلام ده منين قصدك أنى باخرّف، لأ يا عم الحمار، بس عاوز أعرف مصدر المعلومة. شوف يا سيدى الذى ذكر المعلومة هو سيدك أبو حيان التوحيدى، فى كتابه الممتع والمثير للعقل (الإمتاع والمؤانسة)، وقد ذكرها الدكتور زكى نجيب محمود فى الكتيب الذى أعدّه عن (الإمتاع والمؤانسة)، والذى صدر عام 1995 ضمن مهرجان القراءة للجميع، وفى ص17، و18 نقرأ (وفى الليلة التاسعة أوصاف دقيقة لصنوف الحيوان وما تتميّز به صفات الحيوانات كلها، فهو إذن مختلف عنها لا بالنوع ولكن بكثرة ما فيه من صفات تجمّعت فيه وتفرّقت فى الحيوان، فللسبع والفأرة صفة الكمون، وللذئب صفة الثبات، وللخنزير صفة الحذر، وهكذا، انظر مثلًا إلى الصفات التى لا بد من توافرها فى القائد، تجدها كلها مما ينصف به الحيوان أيضًا «ينبغى للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضرب الحيوان: صخاء الديك، وتحنن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركى، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن (بعروا)». ووقفت فرحًا مما سمعته وقلت له. واد يا حمار أنت عرفت الحاجات دى إزاى. إيه يا عم الحج ما الكتب موجودة ومش لاقية حد يقرأها أو حد يفهما. والله عند حق يا حمار. بس ماتقلش حمار. يا عم حمار حمار بس ماتقعوش فى اللى إحنا واقعين فيه.. وأنتم يا معشر الحمير أحسن حالًا منّا نحن معشر المصريين، على الأقل ماعندكوش قرضاوى. ويضحك الحمار بشدة وعنف حتى حرك ذيله بقوة، فطال وجهى وطرف عينى، وقال وهو لا يزال يضحك: وكمان ماعندناش حد بياكل فطير وبط بالفريك.
حسين عبد العزيز