من نافلة القول «يعنى مما لا حاجة إلى ذكره» أن تعبير «الدولة العميقة» قد أضحى حاضرا فى حياتنا السياسية التى يعلم الله حجم بؤسها، وصار متمتعا بذيوع وشهرة يلامسان حدود الفضيحة شخصيا.
هذا التعبير الذى يدمغ «دولتنا» الشاسعة التعبانة بأنها «عميقة» أو «غويطة»، على ما يقول أهل الاستظراف والسماجة، هو ولا شك واحد من أسوأ تجليات داء «البغبغاوية»، الذى إذا أصاب إنسانا حرمه تدريجيا من نعمة العقل وجعله، ليس بغبغانا يطنطن ويبغبغ ويهرف بما لا يعرف فحسب، وإنما مجرد «دابة» ثقيلة الوزن وخفيفة المخ تعربد فى الدنيا هكذا، وهى عاجزة عارية من أى قدرة على التفكير والتعليل والتدبير، فضلا عن استحالة أن تتعلم أو تفقه شيئا.
قطيع البغبغانات المتوحشة «مع عظيم الاعتذار للبغبغانات الأصلية»، هؤلاء يظنون من فرط الجهل وشدة الغباوة أنهم ربما يكونون أكثر شياكة وأناقة إذا ما هلفطوا بأن الدولة «عميقة» عليهم قوى جدا خالص، ومن ثم لا بد أن يناصبوها العداء الصريح علنا ولا يعترضون أو يمانعون فى تدميرها وتخريبها وحرمان المصريين من سياجها الضرورى الحامى لاجتماعم وكيان وطنهم.. بدل الكفاح والعمل الجاد لتطوير هذه الدولة العتيدة، وتنظيفها من أعراض الترهل وأوساخ الفساد وإعادة بنائها على أسس الكفاءة والنزاهة والعصرنة وترشيدها بقيود وكوابح الديمقراطية الحقة!!
طبعا، لا وقت ولا مساحة تكفى لشرح أسباب الجهل العميق ومظاهر الغباوة المزمنة الراقدة فى تلافيف الهرتلة بهذا التعبير الطائش عمّال على بطّال، وبمناسبة أو من دون أى مناسبة، ومع ذلك فإننى أكتب هذه السطور تحت تأثير الغيظ وآلام انفقاع المرارة التى أصابت العبد لله، وهو يسمع فى الأيام القليلة الماضية بعض نشطاء قطيع البغبغانات وهم يتفتفون بكلام شنيع لا يفوق تفاهته وفحشه إلا ضرره وخطره الداهم، على حسن العلاقة بين ملح الأرض البسطاء وبين نخبة المجتمع، التى يفترض أن تكون ذكية ومتعلمة ومخلصة لواجبها فى تبصير وتثقيف خلق الله الغلابة، لا التعالى عليهم وإهانتهم والحط من شأنهم، وبث اليأس فى نفوسهم، على نحو ما يفعل أعضاء القطيع المذكور، بعدما حشر نفسه بالعافية وبالغصب والنصب ضمن صفوف المثقفين النابهين، مستغلا أن القوانين لا تفرض عقوبة جنائية على الأميين الأشرار الذين يدّعون العلم والمعرفة زورا وبهتانا.
فأما ما أثار غيظى وفقع مرارتى فهو تلك التعليقات المقرفة التى سمعت البعض يرددها بمناسبة أن الميادين امتلأت يوم الجمعة الماضى، فى ذكرى ثورة 25 يناير بجحافل من الفقراء البسطاء، الذين يكابدون ويدفعون وحدهم من أرزاقهم ودماء وأرواح أبنائهم، ثمن أنهم هم أيضا الذين كانوا القوة الضاربة الساحقة التى لولاها ما تقوّض وسقط إلى الأبد ذلك المشروع الطائفى الفاشى الذى حاولت عصابة الشر الإخوانية إقامته فوق جثة الثورة والوطن دولة ومجتمعا. كما أن هذه الجحافل هى التى تكابد وتكتوى بنار لوحة الفوضى العارمة المخلوطة حاليا بفيض رهيب من الإجرام والإرهاب والتخريب.
لقد سمعت بأذنى أحدهم يقول وهو لا يدارى اشمئناطه وتأففه وقرفه المقرف، ما معناه أن الحشود التى تغص بها الميادين «لا تشبهنا وليست منا»، وأنها من مجالب «أجهزة الدولة العميقة»!!
كنت على وشك أن أصفع هذا التافه على قفاه، وبذلت مجهودا خرافيا لكى أقاوم رغبة جامحة أن أغرق وجهه الكالح ببصاقى، لكنى استجمعت كل ما أملكه من حلم وتهذيب وهتفت بحسرة وأنا كسير القلب: لا يشبهونك؟! طبعا لا يشبهونك، فأنت وأمثال حضرتك من ورثة عرش مملكة السويد.. ومع ذلك فلتعلم يا هذا أن انتسابك لملح الأرض هؤلاء يشرفك أنت ولا يشرفهم ولا يفيدهم، بل ربما يضرهم. واعلم أيضا يا.. مسكين «كنت أريد أن أقول له (يا حمار) وتراجعت إشفاقا على الحمير» أنهم ليسوا من تلك الدولة العميقة الوهمية الساكنة فى رأسك الفارغ، وإنما هم عينة من شعب «عميق» الوعى مرهف الحس، ولولا بؤسك العقلى وتشوهك الروحى لأدركت حقيقة أن هذا الشعب هو الذى يقرف ويشعر بالغربة عن أمثالك، لا العكس.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.