الحقيقة أن فيلم «الميدان» لمخرجته جيهان نجيم يُثير من الإشكاليات العميقة بقدر ما يثير من الشجن الحقيقى، أما الشجن فهو ما يتعلق بحدث الخامس والعشرين من يناير 2011، والمواقع التى اتخذها كاتب المقال وغيره من المثقفين داخل الحدث وخارجه أو على هوامشه، وأما إشكاليات الفيلم فهى تتعلق بالبنية والمقول ووجهة النظر، وتتعلق بالثورة ذاتها التى يضع الفيلم نفسه معها فى وضع ملتبس للغاية، كما قد يتبين من السطور التالية.
وأنا أشاهد الفيلم كنت أسترجع لحظات وأنباء وضعت الممثل البريطانى المصرى الهوليوودى الشاب خالد عبد الله (United 93 - The Kite Runner - Green Zone) تحت دوائر عابرة ومتناثرة من الضوء. خيط استرجاعات الذاكرة هذا لم يجعلنى أفاجأ أو أندهش لدخول الفيلم الذى لعب فيه خالد دورا رئيسيا خلف الكاميرا وأمامها، القائمة النهائية القصيرة لأفخم الجوائز السينمائية فى العالم. لا تفهمونى خطأ، فالفيلم ليس متواضعا فنيا، وإن كان يعانى مشكلات، لكن جودة أى فيلم وثائقى -وهو أمر يكاد يكون منعدما لدى العرب على أى حال- لا تكفى لضمان فرصة إحراز التمثال الشهير ذى اليدين المعقودتين على الصدر، وإنما يحتاج الأمر إلى علاقات ووكلاء ومروّجين يبدو أن خالد بحضوره الهوليوودى استطاع أن يؤمنها.
كانت هذه المقدمة ضرورية حتى ننزع هالة أسطورية يسبغها اسم الأوسكار على العمل، مما قد يمكننا من معاينته بموضوعية أكبر.
كما أن فيلم ساندرا نشأت الدعائى للاستفتاء على الدستور قال رغما عنها ما هو ضد رسالته البادية على السطح، فإن فيلم جيهان نجيم يفعل ذلك هو الآخر بل يفعل ما هو أفدح.
يتبنّى «الميدان» نفس التقنية الاستسهالية المجانية التى يتبّناها تسعون بالمئة من محاولات المصريين الوثائقية (وحتى الإخبارية أحيانا!)، وهى تقنية الاستغناء عن التعليق أو الشريط الصوتى السردى (الراوى) المصاحب للشريط البصرى، ويكتفى بالاعتماد المعتاد على حوارات الشخصيات أو مونولوجاتها، لكنه فى هذا الفيلم تحديدا يبدو أنه لم يكن هناك خيار سوى هذا نتيجة عجز «حقيقى» مزدوج: عجز الثورة نفسها أن تقدّم سردية أو رواية لذاتها (لاحظ مأساة المفارقة فى استمرار التساؤل: ثورة دى ولا انقلاب؟!)، ثم عجز الفيلم أو صانعيه عن احتياز سردية تتضمّن هذا الغياب وتضعه فى سياقه الأشمل.. لا حقيقة هناك، فقط وجهات نظر.
يحتوى الفيلم على اعترافات «كارثية» لا يدرك أصحابها لا أنها اعترافات ولا أنها كارثية! لكن هذه الاعترافات «الفرويدية» تكشف كثيرا عن النيات الطيبة المركبة وعن الجحيم التى قد تقود إليها. الشخصية الرئيسية فى «الميدان» هى شخصية الثائر الشاب الشوارعى الناشط أحمد حسن. يقول أحمد فى الثلث الأول من الفيلم: «علشان فيه كاميرا لسه الثورة مستمرة»، ويقول فى الدقائق الأخيرة من الفيلم «ثورتنا.. صوت».
يا نهار إسود! (ده أنا اللى باقول).
يقول أحمد فى منتصف الفيلم: «الثوار بيتقال عليهم عملا وخونة.. والعملا والخونة بيتقال عليهم أبطال».
هل كان «الثوار» -والأقواس الآن ضرورية- يبحثون عن بطولة؟! عن «دور» بالمعنى التمثيلى التشخيصى للدور؟ تُلخّص هذا التساؤل امرأة هى زوجة مجدى الإخوانجى الموزّع بين انتماءين، أحدهما للمقطم والثانى للميدان، حين تقول: «مجدى جرى ع الميدان.. و(اتصوّر) واتضرب.. خد إيه بقى فى الآخر؟».
هذه الاكتشافات وقراءات الرموز العفوية التى تفرض نفسها على مخرجة سعت إلى «تأليه» أبطالها كمحاربى إسبرطة (لاحظ استخدام الكاميرا من زوايا منخفضة فى تصوير كلوزات أبطالها)، كما سعت إلى «أسطرة» الميدان ولحظته (وهو وجه العملة الآخر على فكرة لكارت بوستال محلاها عيشة الفلاح الذى قدّمته ساندرا نشأت)، أقول إن هذه الكشوفات تضع الفيلم والثورة كلها فى موقع ملتبس للغاية، وكأن الثورة قامت لكى يُصنع هذا الفيلم! وكأن القتلى قُتِلوا ليفوزوا بلحظة خالدة فى التاريخ، تاريخ السينما طبعا!
أنا لا أتوهم، أنا أقرأ «ميدان» نجيم المرشّح للأوسكار. الفيلم يُتابع بتركيز وقصدية وسبق ترصد حسن النية -أزعم هذا- ثلاث حالات ثورية على مدار ثلاث سنوات، وهذه الحالات الثلاث ليست إلا عيّنة من ثلاثين أو ثلاثمائة وربما ثلاثة آلاف حالة ثورية مشابهة. والسؤال حقيقى وفادح: كيف كان على «الثورى» أن يمارس «ثورته» تحت هذه العين الأسطورية، عين كاميرا الأوسكار؟ التساؤل هذه المرة «لاكانى» أكثر منه «فرويدى». سؤال آخر: ما الفارق بين الثورجى الملتفت إلى عدسة تُخلّد بطولته، وبين الإسلامجى المتقى عينا خالقة تخلد استشهاده؟! إن تحليل الشخصية الأكثر رئيسية وسطوة فى الفيلم، شخصية أحمد حسن، يضعنا أمام تناقضات بنيوية بين عمق اللحظة وسطح المشهد. ففى ما يتحدّث الشاب أحمد بالنص عن تراجيديا الضرب والرصاص، يسطع وجهه حليقا وبسوالف محددة بدقة وحاجبين صقيلين، بينما يشى بعناية خاصة أشبع بالعناية بالـ«ممثل» من قِبل فريق الإنتاج، ولعلها عنايته هو بنفسه، وهو أمر أكثر فداحة فى سياق تلك اللحظة بالذات. مع مرور الفيلم بين زمنه الدرامى وزمن الواقع، يحتفظ أحمد بوجهه المنمنم، لكنه يكتسب عضلات أوضح فى جسده ويربى شعره على طريقة راستا الكاريبيين. هكذا بدا وهو يقول سعيدا فى نهاية الفيلم تماما: «هنفضل نشيل حاكم ورا حاكم.. الثورة مستمرة».