أقابلها كل صباح تقريبًا على سلم أحد الكبارى، شاهدتها مرة تتطلّع لصحيفة إعلانات لمتجر شهير به تخفيضات على السلع الكهربية، كانت موجة البرد القارس تضرب مصر الشهر الفائت، والطفلة «نعمة» ذات الـ10 سنوات تقول لى إنها تريد مدفأة، وتشير إلى واحدة بإعجاب، أهلها يقيمون فى خيمة تحت نفس الكوبرى، حيث تجلس هى لتبيع حاجيات بسيطة بقروش أبسط، ليس فى عشّتهم منفذ كهربى باستثناء سلك إضاءة من عامود.. ولا مكان لمدفأة.
بالنسبة إلى البعض فهى تمتهن «التسوّل المقنع»، بالنسبة إلى البعض الآخر فإنها «خطر» عليهم، كونها بعد سنوات ستكون ضمن مئات الآلاف من الضائعين فى وطن ضائع! تصنّف إذن وفق ما أُملى عليها من طبقتها ومجتمعها، أو ما ستتحوّل إليه، يحاسبونها على المستقبل أيضًا.
أما «منى» الطفلة الأخرى التى فى نصف عمر نعمة تقريبًا، فكانت تمسح أحذية المارة فى شوارع حى الدقى بالعاصمة القاهرة، تمتهن صبغ وتلميع الأحذية، أى كسرة نفس تلك التى ترثها وتستمر معها للأبد؟ على مواقع التواصل الاجتماعى وضعت صورة لمنى تمسح حذاء ينتعله أحد الأفندية الواقفين، ودار نقاش. الغالبية تشعر مثلى بقهرة النفس، لكن واحدًا اعتبر أنه لا ضرر فى أن تدنى طفلة فى الخامسة ظهرها على أحذية الرجال بالشوارع، فهذا عمل شريف. ردود أخرى أكثر واقعية وأقل انفعالًا تبحث عن حل أكبر من مجرد مساعدتها وأسرتها ماليًّا وبالطبع دون ذرف الدموع.
فى المنيا، قتل أطفال يعملون فى محجر عام 2008، فى الحقيقة لقد قطعت أجسادهم فى حادث عمل، وفشلت أم فى التعرّف على القطع التى تُكمل بها جثة ابنها. كتبنا وبكينا وناشدنا وصرخنا، لكن الحادث تكرر حتى بعد «الثورة» التى نادت بالكرامة ضمن أشياء أخرى.
بحسب دراسة لمؤسسة وادى النيل، فإن أطفال المحاجر (4 آلاف على الأقل) بالمنيا يشترك بعضهم فى عملية تفجير الجبل باستخدام الديناميت لاستخراج المواد الخام وبخلاف الموت، هناك أمراض تنتظر بقيّتهم، ومنها «الأمراض الصدرية كالتحجر الرئوى والأمراض السرطانية وأمراض العيون وفقدان السمع».
الحل؟ فى عدة أمتار مربعة يحيطها سور، بُنى على مراحل، جزء منه خشبى وصاج ثم حجرى، قضيت بعض أفضل خمس سنوات من عمرى، يومين تقريبًا كل أسبوع، مع أشخاص نذروا أنفسهم تطوعًا لرعاية الطفولة العاملة فى مصر، رعاية جزئية كما كان يحب أن يذكّرنا دومًا الراحل المقيم، أحمد عبد الله رزه، زهرة الحركة الطلابية فى السبعينيات لو تذكرون، وشقيقته الراحلة برلنتى، ومنى صادق سعد الباحثة التربوية، وآخرون، بمركز الجيل فى عين الصيرة، العشرات مرّوا على هذه التجربة التى كانت تجمع العشرات أيضًا من الأطفال العاملين فى مناطق ورش مصر القديمة ومدابغ الجلود والفواخير خلف مسجد عمرو بن العاص، تقدّم لهم ما يعينهم من المدد الصحى والمعنوى والتربوى لمواجهة الحياة مع استمرار عملهم كونه قرارًا يتخذه الأهل لأسباب شتى، وبالطبع التواصل مع أرباب العمل لتحسين شروطه وإبعاد الأطفال عن المهن الأكثر خطورة وتأثيرًا على صحتهم، والمصنفة كأسوأ أشكال عمالة الأطفال، وهى محل تجريم قانون الطفل المصرى (126 لسنة 2008).
الكل فى مركز الجيل يعرف قصة «نوسا السايس» الفتاة التى ماتت فى رحلة بعربة مكشوفة مع أخريات فى عمرها يذهبن قرب الفجر لجمع الياسمين بإحدى قرى محافظة الغربية، وفى طريق المراوح والعودة قتلت الطفلة فى حادث بالسيارة التى كانت تقلها وأقرانها من الأطفال، ماتت نوسة. وكتب أحمد عن البلادة الاجتماعية التى أصابتنا جميعًا، كان هذا منذ عقدين، والبلادة تزيد والدولة لا تتصرف كما ينبغى، و«غالب» المنظمات الأهلية توفق أجندتها المتخمة ببرامج الحقوق المدنية والسياسية، وفق بوصلة المانحين، البلادة أصابت الجميع باستثناءات معدودة.
بين نعمة ومنى ونوسة وبالطبع الكثير من الذكور، ينبغى على مَن يخطّط لمستقبل هذا البلد (إن كنا نخطط لشىء) أن يجد حلًّا «متكاملًا» لنحو 2 مليون طفل عامل، بخلاف العمالة الموسمية فى الزراعة، وبالإضافة إلى نحو 1.7 مليون طفل شوارع، حلًّا لا يشمل بالطبع توريدهم بالسخرة للمنظومة الأمنية والعسكرية لخلق انكشارية جدد كما سربت شائعات قبل أشهر، ولا يشمل حلول سوزان مبارك البراقة محدودة التأثير، حلًّا مجتمعيًّا يدخل فيه أصحاب الأعمال وأهل الأطفال، فكلاهما مستفيد من عمالة الصغار وحريص على استمرارها لأسباب مختلفة، ومن الصعوبة بمكان منع هذا بقرار وتنفيذه، ورغم تجريم عمالة الأطفال، فإن تحسين بيئة العمل ومحو أميتهم الأبجدية، والاجتماعية معًا، وتجريم (وتغليظ العقوبة على تشغيلهم فى المحاجر والمسابك وغيرها من الأماكن الخطرة) وإيجاد مراكز للخدمة والرعاية الجزئية أو المتكاملة لهم، فى أماكن سكناهم وعملهم، كل هذا قد يكون بارقة أمل لهؤلاء، ولنا جميعًا.