دعونا نعتبر مجازا أن الثورة مبيد يهدف إلى القضاء على الحشرات والطفيليات التى تمتص دماء الأوطان. فى الواقع وبعيدا عن المجاز، تتحور الحشرات والطفيليات لتكتسب مناعة ضد المبيدات فتقوم أجسادها بتطوير قدرات مناعية يورثها الناجون لأجيال تالية تحمل الصفات البيولوجية التى تحميها من المبيدات. فى عالم السياسة يمكن اعتبار ذلك ببساطة: أن يطور اللاحقون من أساليبهم ليتجنبوا أخطاء السابقين الذين انفجرت الثورات فى وجوههم. ما سأقوله فى السطور التالية ليس هجوما على أحد أو انتقاصا من دوره، وليس تعاليا على البسطاء أو إدانة لهم. بقدر ما هى محاولة ضرورية لفهم الواقع حتى يمكننا العبور منه إلى مستقبل أفضل. كل الشخصيات التى رفع الناس صورها ورقصوا وهم يحملونها فى تظاهراتهم، منذ قيام ثورة يناير، أملا فى مستقبل أفضل أو خوفا من غد غامض، رسمت لهم الجماهير صورة مبتسمة واثقة واعدة منحها شوقهم إلى الحياة الكريمة ألوانها الزاهية. دعونا نضع النخب والمنتمين سياسيا جانبا. البسطاء الذين قالوا نعم للإخوان ورفعوا صورة مرسى مطالبين بإعطائه الفرصة هم أنفسهم من يهتفون الآن بإعدام الإخوان ويرقصون حاملين صور السيسى! عندما يعيش الناس فى واقع قاس لا يلبى حاجاتهم يصبحون كأنهم يتشبثون بأرجوحة عملاقة تندفع بهم بجنون بين قيعان مخاوفهم وقمم أحلامهم. فى وضع كهذا لا يمكن لمن يخذلهم أن يتعشم فى ثباتهم على موقف واحد منه، ما داموا أسرى لحركة هذه الأرجوحة المجنونة! هكذا توهم كل من سقطوا إلى الوحل بعد أن كانوا يقبضون بمخالبهم على السلطة. ليت القادمين يتعلمون من فشلهم. على الضفة الأخرى للنهر يثور الآن الشباب المحبط ويهتف بسلمية بسقوط العسكر فى شارع يرفضه، وفى مناخ مذعور لا يرحب بالاستماع إلى صوته، متوهما أن البسطاء الذين تسرقهم سكينة الخوف من الغد المجهول، سوف يرفعونه على الأعناق ويتبنون مطالبه! لكن الناس، كما يخبرنا التاريخ، لا يستمعون إلى الصوت المعارض إلا بعد أن يوغل صاحب السلطة فى ارتكاب الأخطاء، ويبتعد يوما بعد الآخر عن تحسين ظروفهم. الوعود المجانية التى يطلقها القابضون على السلطة ولا يحققونها تخلق الموجة الثورية العارمة التى تقتلعهم بعد أن يمتطيها من يخرجون مطالبين بسقوطهم! عبد الناصر لم يكن ديمقراطيا، لكن حبه استقر فى قلوب البسطاء، لأن نصفه العادل حاول بصدق أن يحقق أحلامهم. لهذا لم تسقطه هزيمة يونيو المخزية، لأن صورته ظلت زاهية فى قلوب الجماهير، كبطل جاهد لتوفير مطالبهم، ولم يسع لثروة يكتنزها، أو لسلطة يورثها لأولاده، أو لتمكين يمنحه لأهله وعشيرته. لهذا أطلق عليه البعض لقب المستبد العادل! أقول لمن يظنون أنهم ماضون فى طريقهم لاستنساخ ناصر فى جسد السيسى، إنهم حتى الآن ماضون فى طريقهم لاستنساخ النصف الأول فقط! هذا ما نراه فى ضرب تظاهرات الشباب السلمية وحراسة موالد التنورة التى ترفع صورة البطل! فى مناخ كالذى نعيشه الآن، أى سلطة قادمة تنجح فى توفير الخبز والأمن للناس والابتعاد بهم عن شبح الحرب الأهلية التى تعلو ألسنة نيرانها من حولهم، لن يخرج الناس ضدها حتى ولو ساقتهم إلى دروب بعيدة عن الديمقراطية. لو تحسنت أحوال الناس الاقتصادية، ولو قليلا، لرأيتم البسطاء يتصدون من تلقاء أنفسهم لفض مظاهرات المطالبين بسقوط النظام مهما كانت قوة حجج معارضيه. خلال كتابتى لهذه السطور تصدت الشرطة بعنف مفرط لمظاهرات الشباب الذين أرادوا إبلاغ الناس فى ذكرى ثورتهم المسروقة بأن المجلس العسكرى والإخوان كاذبون، لأنهم قتلوا زملاء لهم. لكن كيف يستمع لهم من يرتعدون رعبا فى مناخ تتوالى فيه العمليات الإرهابية وانهيار الدول من حولهم؟ بعد كل ما قاساه المصريون فى ثورتهم سيضمن أى نظام ينجح مستقبلا فى تحسين أحوال المجتمع الحياتية أن يكون رد فعل الناس قاسيا تجاه من يطالبون بسقوطه، مهما ابتعد بهم عن الديمقراطية. بالطبع ستكون مهمة المعارضين وقتها شاقة للغاية، وغالبا لن يستمع لهم كثيرون. الشيوعيون قادة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو» أحلوا تنظيمهم قديما واندمجوا مع رجال ناصر فى ما يسمى بالتنظيم الطليعى «فى محاولة للتحور المضاد»، عندما اكتشفوا أن سلطة يوليو، التى ألغت الأحزاب وحاربت الديمقراطية، بدأت فى ممارسة خطوات عملية جادة تسعى لإعادة توزيع مصادر الثروة لصالح الفقراء! أيامها جاهر بعضهم بالقول: كيف نطالب الفقراء بالثورة ضد ناصر وهو يحقق لهم ما كنا نسعى إليه؟! هذا ما يخبرنا به التاريخ. لا نحلم أن تكونوا شرفاء! إذا كانت الثورة مبيدا للطفيليين فحاولوا فقط أن تتعلموا من الحشرات! هذا هو أضعف الإيمان! لا أقول هذا لأننى أسعى للحفاظ على أى سلطة ديكتاتورية قادمة، ولكن لأن الشعب يستحق استراحة محارب. أى سيناريوهات للفشل تدخلنا فى منطقة غامضة لا نريد أن ندفع ثمنا فادحا للخروج منها.. وربما نظل ندور فى متاهاتها بلا أمل!
تعلموا من الحشرات يا بشر
مقالات -
نشر:
28/1/2014 4:27 ص
–
تحديث
28/1/2014 4:27 ص