مع كل الاحترام لكل من أعجبهم فيلم «the square» لجيهان نجيم، فإنى لم أشاطرهم هذا الإعجاب، بل لعلى أصبت بالدهشة أن يكون هذا الضجيج العالمى حول عمل مثقل بالملاحظات الفنية، وربما يمكن أن أعتبره أكثر أفلام الثورة الوثائقية سطحية وسذاجة، ليس معقولا بالقطع أن يكون حصاد تجربة ثلاث سنوات من عمر الثورة، مجرد نشرة أخبار، تتوالى فيها مشاهد وأحداث، كدنا أن نحفظها من كثرة تداولها على شبكة المعلومات الدولية، بل إن فيلما وثائقيا مصريا مثل «تحرير 2011» بأجزائه الثلاثة أفضل من فيلم «the square»، وأكثر صدقا وتعبيرا عن معنى الثورة.
الفيلم الوثائقى نظرة أعمق وأهم بكثير من اللقطات الإخبارية. إنه محاولة للفهم والتحليل والدراسة، لقطة مكبرة ومقربة للبشر وللأماكن وللأحداث وللظواهر، وليس فى فيلم جيهان نجيم شىء من ذلك، بل إن فكرة الثورة عندها أقرب ما تكون إلى ماراثون لا يتوقف أبطاله عن الجرى من أول الفيلم إلى آخره، حدودها ميدان التحرير، وكأنك أمام لوكيشن تصوير فى فيلم من أفلام الأكشن. أما الشخصيات التى اختارتها المخرجة من بين ملايين المشاركين فى الثورة، فقد زادوا الأمر سوءا وتسطيحا، ولولا تلك الفواصل الرائعة لجداريات ملونة، تسجل رمزيا وتعبيريا رحلة الحلم والإحباط، لكُنّا أمام ما يقترب من كتب المراجعة النهائية للثانوية العامة، مجرد ملخصات للمناهج، تشير إلى الأسئلة المتوقعة، وبعد الامتحان، ننساها على الفور.
قصة الثورة يرويها لنا أولا شاب اسمه أحمد حسن، يقول إنه قضى 24 سنة من عمره تحت حكم مبارك، أحمد هو الذى يفتتح الفيلم على ضوء الشموع، لا نعرف له وظيفة سوى أنه ثائر على الفساد والفقر وأشياء أخرى ذكرها ولم أتذكرها. مشكلة الأخ أحمد عندما يتكلم أنه يحطم اللغة العربية تحطيما، مشكلته الأخطر أنه مدرك طوال الوقت أنه يقوم بدور أمام الكاميرا، يبدو كما لو كان يقرأ من نص مكتوب، يؤديه بطريقة تمثيلية، وهذا العيب من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له فيلم وثائقى، يفترض أنه يريد أن ينقل الواقع بعفويته وتلقائيته، لم يتوقف أحمد عن الجرى والقفز والخطابة طوال الفيلم، على أساس يعنى أن هذه هى الثورة، كان واضحا أن المخرجة تطلب منه أن يبشّر بدعوته وسط شخصيات مذهولة فى الميدان، بل إنه قام بأخطر مشاهده على الإطلاق، عندما غسل وجهه بالخل، ثم قربع بعض البيبسى من لتر كبير، واندفع مثل ستالونى وشوارزينجر لكى يواجه قنابل الغاز، أصيب فى رأسه، ولكنّ الله سلّم، ويبدو أن الإنتاج قد تكفّل بمصاريف العلاج.
ينضم إلى موكب الساردين خالد عبد الله، الممثل المعروف الذى قام ببطولة فيلم «عدّاء الطائرات الورقية»، ولد فى الغربة، ولكنه قرر أن يذهب إلى مصر بعد أن سمع أن فيها ثورة، الميدان يستوعب الجميع، وخالد عاشق صبابة لوطنه ولثورته، اختار أن يقوم بدور الإعلام الشعبى، وأن ينقل نبض الثورة إلى العالم عبر الكمبيوتر. شىء جميل ورائع، ولكن المشكلة أنه يتحدث أحيانا بالإنجليزية، وأحيانا بالعربية، فلا تعرف بالضبط هل هو يخاطبنا أم يخاطب الغرب، أم أنه «بيأروش مع حاله» كما يقول الشوام. هو أيضا على تواصل مع والده عبر الكمبيوتر، الأب يبدو أنه هرم فى «النضال» خارج الوطن، وسيظهر أخيرا على فراش المرض، ليخبر ابنه ما مفاده أن الثورة قد سُرقت، وعليه العوض ومنه العوض، ويبدو أنه استودعها أمانة فى يد خالد.
فى الميدان تنضم عايدة إلى أحمد وخالد، لا نعرف عنها الكثير، كأن وجود الشخص فى التحرير هو بطاقة هوية لا تحتاج إلى بيانات، عايدة تبدو طوال الفيلم تائهة، تتحدث معظم الوقت بالإنجليزية، ولكنها على العموم أقل ثرثرة من أحمد، كما أنها تختفى أوقاتا طويلة من الفيلم، فتريح وتستريح، وهناك الشخصية الثالثة التى سنرى ثورتنا المنكوبة من خلال عيونها، وهى فى رأيى شخصية جديدة وثرية.
مجدى شاب إخوانى لديه أسرة وخمسة أبناء. مصدر ثراء الشخصية ليس بالتأكيد فى انتمائه إلى الجماعة التى أفسدت الثورة، ولكن فى صراعه بين انتمائه إلى الثورة وحلمها العام بالتغيير بمشاركة الجميع، وبين التزامه بتعليمات جماعته ذات المشروع الضيق المناقض للثورة. هذا الصراع الذى لم يحسم حتى النهاية، جعل الشخصية مختلفة وجديرة بالدراسة، بعكس الشخصيات الثلاث التى تكرر ما تقول مثل الآلات، والتى يكفى أن ينطق أحدهم لينوب عن الآخرين فى أفكاره وشعاراته. مجدى يقول إنه غير راض عن الجماعة قبل تولى مرسى، ولكنه يطلب بعد تنصيب مرسى فرصة لمدة مئة يوم، يدافع عن الإخوان، ثم يلوم ابنه عاصم لأنه سمع كلام الجماعة، فقام بضرب معتصمى الاتحادية، حتى اللحظة الأخيرة، وحتى بعد أحداث رابعة، ما زال مجدى يحتفظ بعلاقته مع أحمد حسن الذى أرادته جيهان نجيم زعيما شبابيا لثورة لا زعيم لها، أو هو على أقل تقدير جيفارا الميدان، الذى أسقط مبارك والمجلس العسكرى ومرسى معا.
من العبث تقريبا أن تناقش شيئا مما تقوله شلة أصدقاء الميدان، الذين تتفرق بهم السبل فى النهاية، ومن العبث أن أكرر لك حوادث المرحلة الانتقالية الكئيبة، تستطيع أن تراها بنفسك إذا كتبت على يوتيوب مثلا عبارة أحداث محمد محمود، أو ماسبيرو، أو سحل ست البنات، أو خطاب مبارك الأول، أو التحية العسكرية للفنجرى، يمكنك أيضا أن تشاهد كل أغنيات رامى عصام مطرب الثورة، وهو الشخصية الرابعة التى استعان بها الفيلم، معظم مشاركته بفواصل غنائية فى الميدان «موجودة أيضا على يوتيوب»، كما ظهر فى مشهد وعلى ظهره آثار التعذيب بعد القبض عليه يوم 9 مارس 2011.
ليس هناك تحليل من أى نوع، مجرد شهادات وأحداث معظمها بكاميرات الفيلم طبعا، الصورة جيدة وواضحة، ولكن الثورة فى فيلم «the square» ليست فكرة وحلما جماعيا بالتغيير، وإنما مباراة يقودها فريق الأستاذ أحمد، الذى تعب من كثرة الإطاحة بالأنظمة، ومن كثرة توعية زملائه بأعداء الثورة وأهدافها. ميدان الكعكة الحجرية فى فيلمنا العالمى مجرد ساحة للغناء والقذف بالطوب، أو كما قال أحمد/ جيفارا: «الميدان ده نُصّ حقنا.. ومش خسارة فينا».
عرفتم ليه باكرر دايما إن الثورة لم تنجح فى أن تكون بديلا سياسيا لمن أسقطتهم؟ لله الأمر من قبل ومن بعد.