
ويتناول الفيلم قصة أحد أعضاء الكونجرس الذي يحكي أن واحدا من كبار المديرين التنفيذيين لهذه الشركات وبينما هم في اجتماع من اجتماعات عملية الإنقاذ التي بدأتها الحكومة الأمريكية بعد الكارثة، قال له بالحرف إن على الحكومة أن تصدر قوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بالأموال التي يحصل عليها أمثاله من المديرين الكبار في هذا القطاع، ويتعجب الرجل وهو يقص هذه الواقعة من أن المدير التنفيذي ممتعض من أن الحكومة الأمريكية تطلق لهم الحرية لكي يكونوا طماعين قدر ما يشاؤون بالأموال التي تجنيها شركاتهم بدون رقابة من أي نوع، ويستجديه لكي توضع لهم قوانين تكبح جماح هذا الطمع لأنها كما يقول الرجل طبيعة بشرية ولن تتوقف من تلقاء نفسها.
الفيلم الجديد القديم لمارتن سكورسيزي.. أيقونة هوليوود الماكرة، بغض النظر عن كل رأي وكل تحليل وكل ما هو أكاديمي وانطباعي عابر أو مدقق، فإنه حينما يتمكن مخرج وصانع فيلم من أن يخرج لمشاهديه بنفس الأسلوب ونفس مسار التصاعد الدرامي ونفس الحبكة في أربعة أو خمسة أفلام مختلفة على مدار عمره الفني ويتمكن من تحويل كل منها إلى علامة في تاريخ السينما يلهث إعجابا بها المشاهد والناقد على حد سواء، فنحن لا نملك له إلا التصفيق قبل أي ملاحظات أو تحفظات إن وجدت.
عن الجانب الشائن من عالم المال والبورصة، وهو الجانب الأكبر بالمناسبة، يأتي هذا العمل ليضيف سكورسيزي في مشروعه العملاق عن جذور العنف والفساد في المجتمع الأمريكي إضافة جديدة، وهو الفيلم الخامس في سلسلة أفلام لا ترتبط موضوعا لكن الشكل الثابت لقصة الصعود السريع والحياة الفاقعة ومن ثم الهبوط العنيف التراجيدي لأبطالها لا تخطئه العين، فمن قصة الملاكم العنيف الشهواني في The Raging Bull، إلى الشاب اليافع الذي ينضم للمافيا مبكرا لتصبح عائلته الحقيقية في Good Fellas ورجل العصابات المهمش الذي أصبح مديرا لأكبر فنادق فيجاس في Casino وحتى رجل الأعمال العبقري المتهور بشكل أسطوري في The Aviator.
تبدأ القصة دائما عند بطل يبدو ظاهريا مثل غيره من الناس العاديين، لكنه يحمل داخله طموحا لا يهدأ ورغبة في الصعود لا تعترف أو تتوقف عند أي معوقات مادية أو مجتمعية أو أخلاقية، وهكذا تبدأ مجهوداته المدفوعه بهذا الطموح في الإثمار ويرتقي إلى مصاف الناجحين ممن يشار إليهم بالبنان ويبدأ في خوض غمار حياة باذخة لاهية ليشبع جوعا فرضته نشأته المتواضعة ولا تكبحه أخلاقياته الأكثر تواضعا، ومن هذه الحياة تبدأ رحلة الهبوط، عندما لا يتمكن أي قدر من الاستهلاك أو العربدة من إشباع هذه النفوس وكأن حفرة من العدم تبتلع كل شيء ولا تترك له أثرا طلبا للمزيد.
هو الحلم الأمريكي في أقصى صوره تلونا وقتامة في الوقت ذاته، رحلة الامتلاك التي لا ترضى إلا بامتلاك الكون ولا تتوقف عند أية محاذير، الفيلم الجيد لا يقوم فقط بتسليتك مع أنه من المفترض أن يفعل ذلك بعيدا عن تعقيدات الأكاديميين المتقعرة، ولكنه في رأيي يكون في أفضل حالاته عندما يترك فيك قدرا من الشعور بالمرارة، على المستوى الشخصي أو الوطني أو القومي أو الإنساني عموما، حينما يتمكن صانع الفيلم من مخاطبة مكونات شخصيه مشاهديه وتطويع القصة لكي تداعب طموحاتنا ومخاوفنا من العالم ومن أنفسنا أيضا.. من القدرات الباهرة والطموح المدمر والشر الكامن.. هذا ما تتمكن السينما الجيدة من تحريكه داخلنا، هذه المرارة التي تدفعنا للتفكير، ولو تمكن أي فيلم من أن يدفعنا للتفكير ولو لدقائق قليلة بعد أن تضاء أنوار الصالة وتبدأ في تذكر أين صففت سيارتك فلقد أنجز شيئا ما.. شكرا سكورسيزي.