جلست مع الفريق أول عبد الفتاح السيسى، قرابة ستين ساعة.
اجتمعت والتقيت معه على مدى شهور منذ ثورة يناير حتى حادثة «محمد محمود» تقريبًا كل يوم إثنين من كل أسبوع، (كان اللواء محمد العصار صاحب الدعوة ومصاحب الجلسات جميعها وشريك المناقشات كلها).
كانت حواراتنا فى منتهى الصراحة، والنقاشات فى غاية المصارحة.
أيامها كانت مصر تشهد كل يوم حدثًا وتتعرّض كل ليلة لحادثة، وتزداد الامتحانات وتتدافع الاختبارات، وتتسع الأزمات، وكنا نتكلّم، ثلاثتنا، بلا حد ولا سقف فى شؤون الوطن، وأشهد أننى لم أتعرّض منه لأى ضغط أو نقد لما قلته وكتبته وأذعته أيامها، ولا ضاق الرجل بما قلت وواجهته فى جلساتنا، ولا ملّ من الاستماع إلى تحليلى، ولا توقّف عن مناقشته أبدًا، كما أننى لم أذع إطلاقًا حتى اليوم لا خبر هذه اللقاءات ولا تفاصيل ما فيها ولا ما كنت أعرف يومها من الرجل من أسرار وحقائق ما كان ينبغى أن تكون محلًّا للبوح.
جاء انقطاع اللقاءات نتيجة موقف اتخذته حادًّا وواضحًا من أداء المجلس العسكرى مع أزمة «محمد محمود»، فضلًا عما قلته بعدها للواء العصار من أن المجلس بحسن نيّة أو بعمد مقصود، يسلّم البلد للإخوان، وإن كنت أعفى دائمًا وقتها والآن الفريق السيسى من قيادة هذا القرار، بل كنت أعرف وبشكل شديد الدقة ومشحون التفاصيل، أن السيسى يتحفّظ تمامًا على الإخوان ودورهم ولعبتهم، ولكن القرار وقتها كان قرار مَن يقرّر لا مَن يفكّر.
سمعته يحلّل صادقًا ودقيقًا جدًّا موقف الجيش بعد شهور من الثورة، يقول إن شعبية الجيش تتآكل.
لهذا، حينما تولّى المهمة كان همّه أن يستعيد شعبية الجيش، وقد فعلها كمعجزة، وقد فعلها بامتياز هو عندى أقصى نجاحًا وأشق تعبًا مما فعله الفريق محمد فوزى حين استعاد قوة وهيبة وشعبية الجيش بعد نكسة يونيو 67.
حين كانت تصلنى دعواته فى فترة حكم مرسى لحضور مناسبات الجيش العامة التى كان يدعو لها مفكرين وسياسيين وإعلاميين وفنانين، لم أستجب لأى دعوة منها، لكننى كنت أعرف أن وراءها هذا الهدف النبيل من استعادة مكانة الجيش فى قلوب المصريين.
حين كانت صوره تصلنى وهو يجرى مع جنود وضباط الجيش، مرتديًا أفَرول القتال، كنت أعرف أنه يعيد تركيب الصورة وتجديدها ويبنى المهدم ويرمم المتكسّر ويشكّل الذهنية العسكرية والشعبية بالقائد الشاب لا المسن، وبالقائد المشتبك مع الواقع لا المنفصل، وبالقائد المتفاعل مع جنوده لا المنعزل فى مكتبه.
كان الفريق السيسى يقول لى ويؤكد أن الشعب سوف يستدعى الجيش مرة أخرى، كان هذا قبل مجىء مرسى أصلًا، كانت الرؤية دقيقة.
وفى ثلاثين يونيو وما بعدها، كان الرجل يعرف طريق خطواته إلى قلوب الناس.
السيسى يملك حيثية لدى الشعب تجعل هذا الشعب متشبّثًا به بفطرة وبفطنة وبرغبة فى خلاص يدفع به دفعًا واندفاعًا إلى مقعد الرئاسة.
لأن الشعب يعرف ما لا يعرفه كهنة الساحة السياسية.
لن تحتمل مصر رئيسًا يأتيها بواحد وخمسين فى المئة.
الرئيس فى اللحظات الصعبة والمنحنيات الخطر يجب أن لا يكون موضع قلق وتساؤل وريبة وتحت اختبار نصف الشعب، ولا يمكن أن يأتى للحكم بأصوات مضطرّة أو مضطربة أو مترددة أو متأفّفة.
كى تمضى مصر فى طريقها تحتاج الثقة.
الثقة فى نفسها.
وفى رئيسها.
وفى طريقها.
مصر تحتاج الرجل صاحب الرؤية وصاحب الخبرة.
تحتاج رجلًا خبيرًا ومختبرًا فعلًا، تم امتحانه فى اتخاذ قرار صعب ومصيرى، وفى موقف دقيق وحرج، وفى رؤية ضبابية وزلقة، وتم اختباره فى إدارة مؤسسة واسعة ومهمة، ثقيلة الوزن وعميقة الجذور، أخرجها من أزمة ومن نفق وصعد بها من سفح أوشكت أن تتعثر فيه إلى قمة تربّعت فوقها وأطلّت منها.
مصر تحتاج مَن لا يملك أغلبية فقط بل يملك إجماعًا.
الإجماع الوطنى على دوره، والأغلبية السياسية على جدارته.
مصر تحتاج قبضة تلكم وهى ذاتها تنفرد فتصير كفًّا تحنو، رأسًا مرفوعًا يعرف متى ينحنى ليضع قبلة على رأس أم شهيد.
مصر تحتاج قويًّا لا مستقويًا.
أمينًا مستأمَنًا.
مسؤولًا تُسائله، لا خفة لديه تثقل العبء، ولا مراهقة داخله تضغط على مواقفه، ولا شيخوخة فى أفكاره تعوق قراراته، ولا شىء يحتاج أن يثبته فَيَثْبُت.
لا يقبل أن يبتزّه المحبون ولا المنافقون ولا المعارضون ولا الناقمون.
مصر تحتاج رجل دولة كى ينهى دولة الرجل.
يوقن أنه قادر، لكن ليس مقتدرًا، أنه قائد، لكن ليس فرعونًا، أنه رئيس ولكنه ليس سيدًا، أنه لن يغلب البلد بل هى غالبة على أمرها ومغلوب مَن يغلبها.
وأنه يدير الدولة ولا يملكها.
عليه أن يفهم ويتفهّم ويتفاهم.
يحاور ويناور ويداور ويواجه، كى يقنع الشعب والمجتمع بموقف وقرار، لا أن يمليه على طائعين فيطيعون.
يثق بالمواطن.. ربما المواطن لا يعلم لكنه يحس.
ربما المواطن لا يعرف، لكنه يدرك.
ربما المواطن لا يستوعب، لكنه يصدّق.
ربما المواطن ليس مؤهلًا، لكنه متأهب.
ربما المواطن لا يستجيب، لكنه وطنى.
تحتاج مصر رئيسًا مشهورًا، الشهرة تملؤه، فلا يسعى لها ولا تجذبه فيُجذب لها.
يحترم العالم شعبيته، لا يحتاج أن يقيسها بقدر ما يحتاج أن يتعايش معها.
تريد مصر رئيسًا موزونًا، متوازنًا، ثم له وزن.
هذه ليست صفات رئيس مثالى، بل صفات رئيس طبيعى.
هذه ليست صفات رئيس لا يخطئ، بل يخطئ وهو يعرف أنه يخطئ، وهو يعترف ويعتذر حين يخطئ، وهو يصحّح حين يخطئ.
هل هذا هو السيسى؟
بالتأكيد هو ليس أحد آخر من المطروحين أمامنا منذ خمسة وعشرين يناير.
فى بعضهم بعض من هذا.
وفى هذا بعض منهم.
لكنهم ليسوا هو طبعًا.
هل من منافس إذن؟
أتمنى صادقًا أن يكون هناك مرشح قوى أمام السيسى، بل أكثر من مرشح.
لماذا؟
لأن ساحة السياسة يجب أن لا تخلو من المنافسين.
ولأننا لا نريد تفويضًا لأحد بل انتخابًا لواحد.
ولأننا نريد أن نسمع نقدًا ومعارضة وهجومًا على السيسى.
ولأننا نريد أن نعرف عيوب السيسى بعيون منافسه.
ولأننا نريد لمصر أن يُتاح لها الاختيار.
ولأننا نريد للسياسيين فى مصر أن يكبروا وينضجوا ويتفاعلوا مع شعبهم، وأن يدركوا أن وصول أفكارهم إلى الشعب ربما يكون أحيانًا أهم من وصولهم هم إلى الحكم.
لأننا نريد لمن لم يفز أمام السيسى أن يكون متربّصًا به مترصدًا له فى أخطائه، إن أخطأ، وأن يكون سندًا له إن احتاج الوطن معارضًا يمسك بكف رئيس فى وجه طوفان أو فيضان.