يبدو أن هناك تصميمًا على العناد المغرور والفَخور، حين يتم وصف ثورة يناير بأنها ثورة الشباب.
هذا كلام ينتقص من الثورة، حيث هى ثورة كل مواطن فى هذا الشعب، حتى مَن لم يخرج فى مظاهراتها، ولكنه آمن بأهدافها وأحلامها، بل وينتقص هذا الوصف من الشباب نفسه، إذ كأن شباب مصر صاروا نقابة فئوية نزلوا من أجل أهداف شبابية وليست أهداف الوطن كله، والشعب جميعه.
المشكلة العويصة أن شريحة من الشباب، خصوصا المنتمين إلى الحركات الاحتجاجية فاقدة الشعبية بدت تتعامل كأنها وصية على الثورة ومتحدثة باسمها، وصار تصرُّف هؤلاء طفوليًّا بقدر مبالَغ فيه، ومؤسف فى مراهقته، فكأن الثورة لعبتهم الأثيرة، وماحدّش ياخد اللعبة بتاعتى، لأن الثورة دى بتاعتى أنا!
لا توجد ثورة فى الدنيا إلا والشباب فى قلبها، وضمن أعمدتها الفقرية، لكن لا يسمح هذا لأحد بأن يحتكر الثورة لمجموعة أو فئة وإلا لصارت ثورة ١٩١٩ هى بالضرورة وبنفس الآلية ثورة شباب.
لنقرأْ أستاذنا الكبير، شيخ الصحفيين، حافظ محمود (هل يعرف شبابنا شيئًا عن هذا الأستاذ الجليل وتاريخه المشرق؟) وهو ينقل عن عبد العزيز فهمى، إحدى زعامات ثورة ١٩ وهو يروى: «لقد تألفت لجنة من طلبة المعاهد العالية لتنظيم الحركة الشعبية، مبتدئة بطلاب هذه المعاهد.. وعلمت السلطات البريطانية بأنباء هذه الحركة، فأوعزت إلى نُظَّار هذه المعاهد، وكانوا كلهم من الإنجليز تقريبًا، بإغلاق أبواب المدارس العليا حتى تفشل دعوة اللجنة فى تنظيم أول مظاهرة فى ثورة سنة 1919.
كان اليوم يوم 9 مارس سنة 1919، وكان طلبة مدرسة الطب محتشدين فى فناء المدرسة هاتفين للحرية، وقد أطلّ علينا الناظر الإنجليزى من على السُّلم الموصل إلى مكتبه منذرًا ومهددًا، وقرر الطلبة فى لحظة أن يوفدوا أحدهم إلى حيث يقف الناظر للتفاهم معه على فتح أبواب المدرسة، وما إن صعد الطالب إلى حيث كان الناظر واقفًا حتى كان الناظر قد فقد أعصابه وتحوَّل تهديده للطلبة إلى شتائم.. ولسوء حظ بريطانيا فى 9 مارس سنة 1919 أن أحد رعاياها الذى عينته ناظرًا لمدرسة الطب فى القاهرة قد فقد فى هذه الساعة البرود التقليدى الإنجليزى، فتحول سبابه للطلبة إلى سباب لكل مصرى. وكان طبيعيا فى هذا الجو المتوتر أن يفقد مندوب الطلبة هدوءه، فإذا به يردّ على سِباب الناظر بركلة قوية من قدمه، وإذا بالناظر الإنجليزى يتدحرج إلى آخر درجات السُّلم، وتتدحرج معه هيبته، وإذا ببواب المدرسة يفتح الأبواب التى أمر الناظر بإغلاقها، وإذا بالطلبة يخرجون فى أول مظاهرة، وخرج بعدهم الناظر الإنجليزى، وقد قرر بعد فقد هيبته أن لا يعود.
سار طلبة الطب بمظاهرتهم إلى مدرسة الحقوق، وفتحوا أبوابها من الخارج، وانتظم طلبة الحقوق فى المظاهرة، وانضم إليهم سائر طلاب المعاهد العليا، وكلما اخترقت المظاهرة شارعا ضاعفت جماهير العمال حجمها، حتى إذا ما وصلت المظاهرة إلى مبنى مصلحة التليفونات كانت قد سبقتهم إلى هناك قوة بريطانية مسلحة، وقد رد الجنود البريطانيون على هتافات الطلبة التى كانوا يرددونها باللغة الإنجليزية بأولى الطلقات النارية التى انطلقت فى ثورة سنة 1919 وسقط الشهيد الأول.
وكانت الدماء الزكية التى سالت فى 9 مارس 1919 هى الوقود الذى أضرم نار الثورة».
هذا ما أشعل ثورة ١٩، فهل قالوا عنها إنها ثورة الشباب؟!