سمعت عنها قبل أن أراها. نسج كبار القرية قبل صغارها، حكايات وأساطير عنها، أشهرُها أنها تذهب كل ليلة إلى المقابر وتجلس أمام قبر أبيها تتكلم معه ثم تبكى. ومع كل حكاية كان يزداد شغفى برؤيتها. وارتبطت هذه القصص بما كانت تحكيه جدتى عن الجن والعفاريت الذين يظهرون ليلا فى حارات قريتنا. رسمت لها صورة تقليدية فى خيالى، مستلهما الشخصيات الشريرة فى حكايات «ألف ليلة وليلة» الرمضانية. حتى جاءت أمى وأكملت الصورة دون أن تدرى: «أوعى تروح عند دار خالتك مديحة». تحذرنى مع كل مرة أخرج فيها من البيت، تحذيرًا مبهمًا يعتمد على معرفتى بما ينتظرنى فى الدار. ومع كثرة التحذيرات تملّكنى شعور بالرهبة من المرور قريبًا من هذا المنزل، وفزع طفولى من ذكر اسم «مديحة».
كبرت ولم يصغر خوفى. حتى جاءت اللحظة التى لم أتوقعها وبالتأكيد لا أريدها، كنا فى موسم جنى القطن، خرجت أمى وهى تمسك يدى بحثًا عمّن يقبل تعليمى، ورغم العدد الكبير رفضت كل السيدات والفتيات، نظرًا لصغر سنى، عرضَ أمى، رغم كل الإغراءات: «علِّميه وخُدى نُص الأجرة». ولم يشفع لديهن طلب عمى عبد الكريم، ريِّس الأنفار الذى توسل لأكثر من واحدة بأن تقبَلنى تلميذًا لها، حتى ظهرت هى: أُعلِّمه بس آخد أجرته كلها فى أول يومين، وبعد كده آخد نُص الأجرة. رفضت أمى دون مناقشة العرض. وعندما سألتها: مين دى؟ ردت فى غضب: مالكش دعوة.
كانت مديحة التى سمعت عنها الكثير، ورأيتها لأول مرة، النسخة الأنثوية من أحدب نوتردام، كما وصفها هوجو، وظهرت على شاشة السينما. وجه دميم وجسد بلا ملامح.
خمسة أيام وأنا وأمى نخرج كل صباح ونعود دون أن يرضى أحد تعليمى جنى القطن، وفى كل يوم كنت أرى مديحة تقف وحيدة وبعيدة عن الجميع.عندما أتذكر هذه الأيام أعرف معنى أن ينزوى الإنسان فى أبعد ركن من العالم خوفًا من نظرات الناس. فى اليوم السادس اقتربت من أمى وسحبت عرضها الأول: طب ها اعلّمه وآخد نُص الأجرة. جرى الاتفاق بالصمت، كل ما فعلته أمى أنها تركت يدى، لكنها أوصتها: خدى بالك منه.
أول ما لفت انتباهى إليها «بَحَّةٌ» جميلة فى صوتها، وأسًى غريبٌ يغلف كل حرف تنطقه، كانت حزينة من نظرة الناس إليها وبعدهم عنها.
اختارت البعد داخل نفسها هربًا من نفسها. بعد أيام من العمل معها بدأنا نتكلم، قالت لى فجأة: لسه بتخاف منى؟ ردّيت بسذاجة: لأ، بس انتى بتروحى التُّرب ليه كل يوم بالليل؟ صمتت، فعادت الرهبة التى كانت قد زالت مؤقتا.
منذ هذا التاريخ وأنا لا أرى فيها ما يجعلنى أبعد عنها أو أنفر منها. امرأة ضعيفة، بل مسكينة، أعطاها الزمان ظهره وسلبها حتى القدرةَ على الحلم. عرفت بعد ذلك أنها تصغر أمى بثلاث سنوات (58 سنة) وأنها وحيدة أمها، يعيشان معًا فى بيت آيل للسقوط، ولا يملكان من حطام الدنيا سوى معاش الضمان الاجتماعى (85 جنيها شهريا) ومع ذلك كانت ترفض كل العروض الكريمة التى كانت تتلقاها فى شكل أموال الزكاة. وزاد إعجابى بها عندما سمعتُها مرة تقول لأحد القائمين على جمعية خيرية: أنا باشتغل وفيه ناس تستحق الفلوس دى عنى.
ربطنى بها خيط رفيع، أحد طرفيه محاولة اكتشاف لغز كيف يعيش الإنسان على هامش الدنيا، بلا رغبات حتى فى الحياة نفسها؟ وكيف يدخل إلى كل هذا الصخب دون أن يترك أثرًا؟ الطرف الآخر من الخيط كانت تمسكه هى، تريد أن تعرف كيف يراها الناس. لم أستطع إخبارها كيف ينظر إليها أهل القرية.. وماذا يقولون عنها.
كل ما قلته عندما سألتْنى: عايزين يعرفوا بتروحى التُّرب بالليل ليه؟ كان ردها بسيطًا: بازور أبويا عشان هوّ الوحيد اللى طبطب عليا فى الدنيا وماخافشى منى. كانت هذه أمنيتها الوحيدة، أن تجد من يطبطب عليها ناسيًا شكلها.
تركت البلدة مع دخولى الجامعة، وفى كل زيارة كنت حريصًا على زيارتها، ومع كل زيارة وحديث يدور بيننا يزداد إعجابى بقدرتها على تحدِّى ظروفها الصعبة ورؤية الناس لها، ماتت أمها منذ عام ونصف العام، فاختفت. فشلت كل المحاولات لإيجادها أو معرفة مكانها، انقطع الحبل الذى كان يربطها بالقرية.
يا مديحة.. أين أنت؟