فى عديد من أغانينا الوطنية «سُم قاتل»، تعودنا دائما أن نردد هذه المقولة التى صارت أقرب إلى «كليشيه» متكرر، وهى أن الأغانى التى قدمت فى الثورة أو تغنت بجمال عبد الناصر كانت تنضح صدقا.
قبل أيام قلائل أطفأنا 94 شمعة فى ذكرى ميلاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وكانت فرصة لكى تعيد الإذاعة المصرية بعضا من هذه الأغانى، وعدد منها حفرت له مكانة خاصة فى مشاعرنا، سواء من عاش تلك السنوات أو ولد بعدها.
كنت حريصا أن أعطى أذنى وعقلى إلى الكلمة واللحن، لاحظت أن كثيرا مما استمعت إليه يعوزه الصدق، لأن المساحة الزمنية المتاحة لعرض هذه الأغنيات اتسعت على غير المعتاد، فاضطر القائمون على الخريطة الغنائية إلى البحث عن المجهول وغير المتداول لملئها، فكانت صدمتى كبيرة.
هل كانت الأغانى التى تتغنى باسمه ترضى عبد الناصر؟ أتذكر أننى سألت الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض، وكان الأقرب إليه، فقال لى إنه كان يضج منها، ولهذا فى أحد الاحتفالات الوطنية، كانت التنبيهات صارمة على الجميع وهى إياكم والغناء باسم عبد الناصر.. التزمت نجاة ومحرم فؤاد وشادية ثم وآه من «ثم» جاء دور المطرب الكبير محمد الكحلاوى، الذى كان كعادته يردد عددا من أغانيه الدينية والبدوية، وفجأة غير فى كلمات إحدى أغنياته أضاف اسم عبد الناصر، ومن بعدها فقد جلال معوض السيطرة وانطلق الجميع يغنون باسم الزعيم!!
لا أتشكك بالتأكيد فى رواية الأستاذ الإذاعى الراحل الكبير، ولكنى فقط أتوقف أمام رغبة الزعيم فى الغناء باسمه.. لا أتصور أن عبد الناصر كانت لديه اعتراضات، بل المؤكد أنه كان سعيدا بما يجرى، وكان الكبار يتسابقون فى إرضائه، مثلا أم كلثوم وهى تردد على مدى ساعة كاملة «حققنا الآمال برياستك يا جمال بعد الصبر ما طال» وتعيد وتزيد عشرات المرات فى هذه الكلمات الركيكة، ونكتشف أن الذى كتبها هو زجال مصر الأول بيرم التونسى، الذى قال عنه عميد الأدب العربى طه حسين «أخشى على الفصحى من بلاغة عامية بيرم»، والذى لحنها هو عملاق الموسيقى الشرقية رياض السنباطى. أو عندما يقول الشاعر عبد الفتاح مصطفى وهو أحد كبار شعراء الأغنية المصرية «الزعيم والثورة وفوا بالعهود لسه دور الشعب يوفى بالوعود».. إنه يبرئ ساحة رجل واحد هو الزعيم ويدين شعبا بأكمله.. بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم عبد الناصر كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. كانت لدينا أغنيات لامست مشاعرنا، مثل«إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب» لصلاح جاهين وكمال الطويل أو «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، أو أحمد شفيق كامل وهو يقول «ضربة كانت من معلم خلى الاستعمار يسلم». ولكن لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم ناصر أو جمال وبعدها يبحث عن أى وزن وقافية ويملأها بمجرد كلمات جوفاء، الأهم أن الرئيس نفسه لم يعترض على هذا الإسراف ربما فى لحظة قال كفاية، حدث هذا ربما مرة أو مرات، ولكنها أسعدته لأنها تعنى أن الكل يذوب فى واحد.
عندما سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل وهو على الأقل صاحب 90% مما ردده عبد الحليم حافظ من أغنيات وطنية واكبت الثورة، أجابنى بأنه لم يشعر ولو لحظة واحدة أنه يلحن لجمال عبد الناصر ولكن للوطن.. انتهت كلمات الطويل، إلا أننى أضيف بأن هناك من غنّى بقناعة وهناك من غنى لمسايرة الزفة، وما تبقى فقط هى تلك الأغنيات التى قُدمت بإحساس، وبالتأكيد تحتل أغنيات الطويل وجاهين وحليم النصيب الأكبر منها، حتى تلك الأغنيات التى ربطت بتعسف بين الوطن وشخص الرئيس، من الممكن أن نتفهم دوافعها، فى ظل زمن ذابت فيه الحدود بين جغرافية الأرض وملامح البطل!!
إننى ألمح فى عدد من الأغنيات القادمة التى بدأت تُعد من الآن للفريق عبد الفتاح السيسى، وهى تحاول أن تصنع أيضا حالة أسطورية للقائد والزعيم الملهم، لكنها لم تدرك فروق التوقيت، انتهى هذا الزمن وشبت مشاعر الشعوب عن الطوق، ولكن من قال إن حاملى الدفوف وماسكى الصاجات سيتوقفون عن الرقص!!