توقّفت سيارة ميكروباص.. وهبط منها فجأة أكثر من ٦ رجال.. يرتدى بعضهم جواكت جلد.. والآخرون لا يمكن تمييزهم إلا إذا كنت من هواة الفرجة على «خناقات» الشوارع.
مَن هؤلاء؟
سؤال عادى لشخص عادى يبحث عن الهدوء فى ساعات متأخرة.. يستمتع فيها بالقاهرة من على مقعد فى المقهى.
الفرقة الهابطة من الميكروباص كسرت هذا الهدوء.. فمنظرهم يوحى بالريبة والغموض والشراسة التى لا توحى بالأمن.
من هؤلاء؟
هل هى فرقة فى مهمة انتقامية كما نرى فى الأفلام المغرمة بعالم رجال الأعمال أو الأثرياء وتجارتهم السرية، وفى الثوانى التى فصلت بين هبوط الفرقة السينمائية من الميكروباص، وبين وقوفهم أمام طاولة يجلس عليها شابان، لم يكتشف أن هذه تجريدة بوليس إلا عندما طلب أكثر الفرقة شراسة.. البطاقات من الجالسين..
ساعتها أدركنا أن هذه الفرقة ليست بلطجية للإيجار، ولكنها قوة بوليس.. إدراك لا يعتمد على علامة واحدة تشير إلى أنهم قوة نظامية إلا سلوكهم المستفز المعروف والمحفوظ، والذى كان أحد أسباب الثورة على نظام مبارك.
الحفلة اكتملت طبعا بتفتيش الشباب بطريقة تتعمّد الإذلال والإهانة.. وإعلان الوجود.
هذا المشهد أصبح عاديا فى الفترة الأخيرة.. شاهدته من مقعدى وأنا أفكّر فى تاريخ طويل تصورنا أنه غادرنا إلى الأبد.. لماذا يعلن معاون مباحث جديد عن وجوده بهذه الحركات التى لا تعبر عن كفاءة فى تحقيق الأمن، ولكن فى فرض سلطة الأمن على عالم الجريمة.. الشرطة تقول بهذه الإجراءات إنها عادت إلى عادتها القديمة أو للأسلوب الذى لا تعرف غيره فى إدارة عالم الجريمة بدلا من مواجهتها.. وشرط هذا الأسلوب هو فرض السيطرة على المجرمين والضحايا والتحكم فى شبكات الإجرام لا منعها.
أسلوب متهالك.. مهين للجميع.. ومحبط.. ولهذا فإن الجديد تماما هو الشاب الذى قطع استمتاع الفرقة البوليسية بانتهاكاتهم.. بسؤال: «هو الحاجات دى مش اتمنعت؟ مش الدستور بيمنع التفتيش الشخصى دون تحريات.. واشتباه؟».
أعضاء الفرقة نظروا إليه بين السخرية والغيظ، وانطلق أحدهم يرد عليه: «فاضل ساعتين على تطبيق الدستور» (حدثت الحكاية فى فجر يوم إعلان نتيجة الاستفتاء)، النهاية لم تكن فقط عند نظرة الانتصار فى عيون أمناء الشرطة، ولكن عند نظرة التحدى التى انتقلت من الشاب إلى أغلب الواقفين على المشهد الذى شهدته منطقة التوفيقية، وكانت ضمن استعراض معاون المباحث الجديد للإعلان عن وجوده أو وصوله إلى المنطقة، وهى عادات مستهلكة للسيطرة لا تحقق الأمن كما قلت، لكنها تضعه تحت السيطرة.
والأهم فى هذا المشهد نهايته التى تضع القديم فى مواجهة جديد/ أو تضع أوهام العودة المستحيلة لشرطة الإذلال فى مواجهة تحدى شباب لم تتغير حياتهم نظريا، ولا انكسر حاجز خوفهم على الورق، ولكنهم ذهبوا إلى الصناديق وهم يرون أنهم يوافقون على وثيقة العبور إلى حياة جديدة، باختصار إنها مواجهة بين من ينصبون فخاخ مؤامرة/ وبين من يصدقون أحلاماً بأنهم سيتخلصون من الكابوس للأبد.
يحدث هذا بينما تجار الوهم ومندوبو مبيعات الأفكار الفاسدة يبيعون فكرة تافهة مثل «لا يصلح معنا إلا فرعون يحكمنا بالكرباج».
يقولون هذا بعد أن يتغنّوا بالشعب العظيم الذى أسقط الإخوان/ ويصنع المعجزات..
مندوبو مبيعات الديكتاتورية يروّجون هذه الأيام مقولات فسدت، وإكليشيهات لم تعد تصلح فى لحظة تحطيم الأصنام.
لم يعد ممكن تصور فرعون يخرج بعد تلك الرحلة القاسية والمستمرة لتحطيم الأصنام وحملاتها الترويجية.
إنه موسم تجريب آخر لنشر الخرافات حول قدرة الفراعنة/ بشكلها التقليدى/ المحافظ/على صنع حضارة/ بينما كانت الحضارة المصرية القديمة تزدهر فى فترات ليحكمها الفرعون الطاغى/ المتسلّط.
يتصوّر عقل الدعاية أنه يمكن اختصار الفراعنة فى نمط واحد/ ينسفون التاريخ من أجل التنميط/ والقهر عبر تسييد فكرة تافهة مثل أن الديكتاتور قدرنا الذى لا نفلت منه.