كالعادة كان مدهشا، الشعب. وقد قدم عربون محبة لوطنه. وهى عادته دون خوف أو تردد. واضحا صافيا شفافا فى اختياره، ويشير إلى طريق مستقبله. لا لأحد فضل عليه. ففضل الشعب على الجميع، هو الذى يمنح وهو الذى يذبح. وقدم كل ما لديه وما زال ينتظر. قام بثورته الضخمة وأزاح الجميع من أمامه، وأصبحت الأرض خالية. مبارك البليد جرف الأرض من تحته ولمن يأتى من بعده، وقامت كتيبة الإعدام المباركية بتصفية جميع الكفاءات والمواهب فى بر مصر، وعندما خلت الأرض لهم وقفوا عاجزين عن القيادة فسقطت الدولة وانهارت. وطفى على جسدها من استطاع بمهارة وبمساعدة الآخرين أن يتشبث بذيل الدولة العميقة. نجا بجسده ونظف نفسه وسمعته سريعا وارتمى فى أحضان من تولى الأمر. فركب الإخوان، ثم ظهر عصير الليمون لتبرير الخيابة والعمالة والجهل السياسى. بعضهم كان وطنيا حقا، مخلصا وخُدع، وبعضهم استفاد وقبض الثمن، وبعضهم لعب لعبته القذرة بالاتفاق فى الجلسات السرية المغلقة، وفى العلن ينادى ويصرخ بالنضال والحرية والوطنية والهوية ويكون الثمن قد تحول إلى رصيده فى البنك. الشعب جرف وسيجرف الجميع بثورته. فالثورة أشبه ما تكون بعملية انفجار هائلة تجىء بعد أن يكون الشعب قد تحمل بأكثر مما تحتمله طاقته اقتصاديا وسياسيا وفكريا، وهو فى عملية الانفجار يحطم ليس قيوده وسلاسله فقط، ولكن كل الحدود والسدود، ثم يحاول وضع أساس مختلف لمجتمع جديد سيد وحر، وفى المقابل عينه الآن لا تلتفت إلا إلى القائد العام ليكون رئيسا له. وبرغم أن القدر يلعب دائما لعبته فى مثل ذلك الظرف التاريخى فى مصر، إلا أن الشعب منتظرا القائد العام ليسير به إلى الأمام وإلى الأمان. وأمامنا مشكلات كارثية أهمها كارثة نهر النيل الذى عجز الجميع عن حل مشكلته مع إثيوبيا، على أساس أن إثيوبيا تتحكم فى مصيرها بعيدا عن القوى الأجنبية التى تتحكم فى اقتصادها، وتتحكم فى نظام حكمها، بل وتتحكم فى التركيبة الداخلية للعرقيات التى على أرضها. السدود لو اكتملت لن نجد نقطة مياه واحدة وعلينا العودة إلى سيرة الإنجليز الأولى فى تحالفهم مع مصر. العالم الغربى صاحب الإمبراطوريات الاقتصادية الضخمة يتوقف نبضه عند قناة السويس، فهو شريان حياته. وكان اتفاق الإنجليز قديما معنا هو أمّنوا لنا قناة السويس نؤمّن لكم نهر النيل. وسار الاتفاق كأنه صفقة، ووقع الإنجليز بالفعل اتفاقية النيل مع السلطات الإيطالية التى كانت تحتل إثيوبيا وقتها لتؤمن نهر النيل إلى مصر مقابل قناة السويس. والتاريخ يعيد نفسه، فمفاوضات نهر النيل ما بين الوفد المصرى والوفد الإثيوبى فشلت، وأعلن عن فشلها ثانى يوم إعلان مشروع قناة السويس، والغرب يرى القناة تضيع منه خصوصا الأمريكان. فدولة الإمارات هى الأقرب للفوز بالمشروع، والإمارات هى الدولة الوحيدة التى على أرضها أكبر بنك صينى وفرع للبنك المركزى الصينى، أى أن الاقتصاد الصينى له وجود كبير وضخم واضح ومحسوس فى الإمارات، ومن الطبيعى أن تستولى الصين على معظم مشاريع قناة السويس ولو من الباطن. وهو ما يثير غضب وحساسية الأمريكان. ومشكلة النيل متعلقة فى المقام الأول بتلك القضية الحساسة، والحل تبادلى فيها كما فعل الإنجليز من قبل. إذن أمامنا مشكلات ضخمة لا يمكن حلها فى يوم وليلة ولا يمكن حلها بالأمنيات أو بالأحلام أو حتى بالأمر. الثورة تختصر المراحل لكن لا الثورة ولا أى شىء آخر فى مقدوره أن يلغى الزمان أو أن ينقل شعبا أو أمة من التخلف إلى التقدم، وأن يخلق الموارد البشرية والطبيعية من الهواء، وأن يحتكم للتنظيم والتخطيط والعلم والتكنولوجيا، وأن يعطى السيادة لقيم الحرية والعدل السياسى والاجتماعى والأمل، كل ذلك فى طرفة عين أو فى عدد من السنين، هى بحساب التاريخ طرفة عين أو إشارة يد أو أمنية. الطريق طويل أمامنا. ولأن رؤية المشهد الآن تدل على أننا متجهون إلى اختيار القائد العام رئيسا، وهو الأحق. علينا أن ننتبه فاستخدام المدفعية بكفاءة عالية تم، وعلى وشك الانتهاء، وكانت هناك كفاءة غير طبيعية فى اصطياد العدوَّان الإخوان ومبارك، وهما أعداء للوطن بالفعل، واحد ببلادة وآخر بعمالة. لكن بعد أن انتهت المدفعية، أو بعد أن ينتهى صوت الرصاص من أداء مهمته فنحن فى حاجة إلى سلاح المشاة ليحتلوا المواقع التى تم الاستيلاء عليها. المشاة فى الثورة هم الكوادر السياسية والبيروقراطيون والتكنوقراطيون الذين سيقومون بتنفيذ البرامج التى ناضل من أجلها الثوار. هم الوقود الذى يدفع حركة الحياة والتنمية فى مصر إلى الأمام. أمامنا تحديات لا مثيل لها والجميع يلعب لمصلحته من حولنا. الإخوان لا يموتون بسهولة وهم على ناصية كل طريق يمكن أن تتجه إليه الدولة، فالقضية التى رفعوها فى المحكمة الدولية هم قبل غيرهم يعرفون أنها لا جدوى منها ولا فائدة سوى أن تكون ورقة ضغط على النظام الحاكم القادم. لكنها لن تحاصر أو تخنق أو تعاقب مصر. لأنها دولة أكبر وأخطر من أن تحاصر، لكن كثرة أوراق الضغط تعيق الحركة وتعيق الحرية، كما أنها تعيق التنمية. المشوار طويل وصعب ووعر، لكن الشعب كما كان وكالعادة على قدر المسؤولية ولا يزال.
سلاح المشاة
مقالات -
نشر:
20/1/2014 6:32 ص
–
تحديث
20/1/2014 6:33 ص