... إذن، فإن فرقة النواح واللطم الوطنى العمومى تؤكد لحضرتك وهى تزعق مُعدِّدة حتى تكاد العروق فى أعناق أعضائها الغلابة فى عقولهم تنفجر من شدة الحزق، أن مشكلة خطيرة فى العرس الأسطورى الذى أقامه ملايين المصريين احتفالًا بدستور جديد يرسم على الورق خطة بناء وطن جديد يزهو بالحرية والتقدم والكرامة والعدالة والمساواة.. ما المشكلة يا عم؟! يقول لك هذا العمّ هاتفًا مُتَفْتِفًا: الشباب غاب تمامًا عن مشهد الاستفتاء على الدستور!
- تمامًا؟! يقول لك: نعم، غاب تمامًا؟!
- يا سلام؟!
- آه وعهد الله، غاب تمامًا واختفى من المشهد نهائيًّا.
- اختفى نهائيًّا؟ طب ماتعرفشى حضرتك راح فين؟!
(يلوذ العم بالصمت ويكتفى بأن ينظر لك شزرًا واحتقارًا).
- طيب بلاش راحوا فين، أين أدلّتك يا عم الحاجّ؟ هل عندك بيانات وأرقام وإحصاءات محددة تسوِّغ وتؤيِّد هذا الزعم الخرافى؟!
هنا يُرتَج على عمِّنا ويحاول تعويض غياب الحجة وموت المنطق بالمزيد من الصراخ والزعيق والحزق بهرتلات وحشرجات صوتية لا تحمل أى معنى سوى الإيحاء بمشكلة فظيعة مع الشباب لا بد من وقفة جادة لحلها، وإلا فعليه العوض ومنه العوض!
طبعًا، ستُضطرّ، إذا كنت مثل العبد لله ممن تَشرَّفوا أو ابتُلوا بصداقة «الأخ عمّنا» هذا، أن تبذل أقصى ما تستطيع من جهد عصبى لكى تكبح جماح نفسك وتجاهد جهاد الأبطال حتى تحول مجرى الكلام من الهرتلة والهزل إلى الموضوعية والجد، وتشرع فى شرح وعرض بديهيات وحقائق من نوع أن من ميزات المجتمع المصرى أنه مجتمع فَتِىّ أغلبيته شابة إذ تبلغ نسبة الفئات العمرية المحصورة بين الـ18 والـ40 عامًا أكثر من ستين فى المئة من السكان، وبديهى أن هذه النسبة نفسها تحكم التركيبة السنّية لجمعية الناخبين المصريين البالغ عددها الآن نحو 53 مليون ناخب، وبناء على هذه الحقيقة فإن الزعم بغياب الشباب تمامًا عن مشهد الاستفتاء الذى شارك فيه إقل قليلًا من 40 فى المئة، يُفضِى فورًا إلى افتراض خرافى، خلاصته أن كل من شاركوا بالتصويت فى هذا الاستفتاء هم من الشريحة السنّية المنتمية إلى مرحلتَى الكهولة والشيخوخة فقط.. بمعنى آخَر فإن هؤلاء الكهول والعواجيز ذهبوا جميعًا وعن بكرة أبيهم إلى لجان الاقتراع دون أن يتخلف منهم واحد فقط يوحد ربنا!
وكما ترى حضرتك، فإن هذا الافتراض خرافى بامتياز ويتصادم بقسوة وعنف مع أى عقل وكل منطق، ولكن ربما أفهمك يا عزيزى لو كان زعمك يخصّ شريحة معيَّنة من الشباب أظنها تمثل من الناحية العددية «شظية» صغيرة ومتواضعة جدًّا حتى إنك قد لا تستطيع أن تراها بالعين المجردة إذا نقَّبت عنها فى خِضَمّ بحر الشباب المصرى، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أجادلك فى أهمية هذه «الشريحة» وضرورة الاهتمام بها وبمشكلاتها العقلية والنفسية المعقدة الناجمة عن البيئة البائسة ثقافيًّا ووجدانيًّا وروحيًّا والمشبعة بسموم وتشوهات لا حصر لها، تلك التى صاغت حالة هذا الفريق من شبابنا وجعلتهم كلهم أو أغلبهم يهاجرون بلا عودة من الواقع المُرّ المَعِيش ويقيمون إقامة دائمة تقريبًا، فى زنازين عالم افتراضى إلكترونى مُغلَق عليهم وضيِّق وخانق، إذ يبدأ وينتهى ضمن حدود شاشة الـ«سكرين»!
يا عزيزى، هل يقبل ضميرك -دعك من عقلك- اختزال كل شباب هذا الوطن واختصاره فى تلك «الشريحة الإليكترونية» وحدها؟! هل العامل أو الفلاح أو الصنايعى أو غير هؤلاء من جحافل شبابنا الجادّ المكافح الذى يحفر بأظافره فى صخر حياة صعبة ومُضنِيَة (بل مستحيلة حتى الآن).. هل كل هؤلاء ليسوا شبابًا لمجرد أنهم لا يتمتعون بميزة السكن فى معازل وجيتوهات «فيسبوك» و«تويتر» ولا يملكون ترف إنفاق الوقت (كل الوقت) فى الثرثرة والهرتلة والرطان الثورى الفارغ من التهذيب أحيانًا ومن الوعى والفهم والثقافة دائمًا؟!
هكذا سألت عمّنا الحاجّ.. لكنه إلى الآن لم يردّ!