هل تتعاطى الحكومة بأسلوب سليم وعقلية محترفة وناضجة، مع أزمة فقدان الشباب الثقة فى نظام الحكم الحالى فى مصر، وخصوصًا أدواته الأمنية والإعلامية، أم أنها تكرر بشكل أو بآخر الأخطاء نفسها التى جعلت الشباب يديرون ظهورهم لها، بشكل بدا جليًّا فى عزوفهم شبه الكامل عن المشاركة فى الاستفتاء على الدستور، كنوع من العقاب المعلن والواضح والصريح لتلك الحكومة، وتنفيسًا عن الغضب المكتوم بين الصدور؟
الحكومة التى اكتشفت، فجأة، حجم خطئها الكارثى فى حق الشباب، بعد غيابهم عن طوابير ودفاتر الاستفتاء، راحت تتحرك كالملسوع أو الملدوغ، أى بتأثير رد الفعل المتخبط والعشوائى، وليس بقوة الفعل المدروس والمخطط والممنهج، وتتبع فى حركتها تلك بعض الأساليب التى شكا ويشكو منها الشباب، ويعتبرونها سببًا رئيسيًّا فى القطيعة بينهم وبين الحكومة وأهل الحكم.
كتبت فى هذا المكان، يوم الجمعة الماضية، وقبل أن يجف الحبر الفسفورى من على أصابع المُستفتين، عدة أسباب فسر بها مجموعة شباب من طلاب الجامعات إحجامهم عن المشاركة فى الاستفتاء، وكنت حينها أعرض وجهات نظر الشباب العاديين غير المسيسين، وهم الذين حرصت على الالتقاء بهم وتلمس وجهات نظرهم، لأننى كنت أعرف وأعلم مسبقًا أسباب مقاطعة الشباب المشتغل بالسياسة، والتى تراوحت بين اعتراضهم على مادة المحاكمات العسكرية للمدنيين فى الدستور، أو قلقهم من مواد أخرى تتيح لرئيس الجمهورية التغول على السلطات الأخرى، أو توجسهم من نفوذ مطرد يتيحه الدستور الجديد للمؤسسة العسكرية، وكذلك غضبهم من اتساع موجة الهجوم على «ثورة 25 يناير»، ودوران عجلة الاغتيال المعنوى والانتقام الأمنى من رموز كثيرة شاركت بقوة فى تلك الثورة العظيمة.
ورغم احترامى لوجهات نظر هؤلاء الشباب المُسيسين، كنت دائمًا أجادلهم بأن الدستور الجديد ليس هو الأفضل أو الأروع، لكنه يمثل الحد الأدنى لدستور «محترم» يحقق مساحة أكثر اتساعًا من التوافق السياسى والمجتمعى، وهى الحجة الأبرز والأكثر منطقية التى كان يسوقها كثير من المدافعين عن ضرورة التمسك بإقرار الدستور حتى يمكن بدء تنفيذ بقية الاستحقاقات الوطنية الأخرى، وإيمانًا بقدرة هذا الشعب العظيم على التدخل وتصحيح المسار الدستورى فى أى وقت، بعد أن خرج مارده من قمقمه.
لكن أحدًا منا لم يلتفت، وحتى يوم الاستفتاء، إلى أسباب واعتراضات الشباب غير المسيس، والذى جلس بعضه على المقاهى غير مكترث بما يدور، وبدا وكأن الأمر لا يعنيه أساسًا، بينما شغل بعضه الآخر نفسه بالتعليقات والمعارك التى تدور على مواقع التواصل الاجتماعى، يفرغون فيها طاقاتهم وشحنات غضبهم ضد ما يرون أنه «تجاهل» متعمد لرغباتهم وتطلعاتهم، أو يسخرون بمرارة مما يشاهدونه من «جهل» واضح بحقيقة وأسباب غضبهم من «النظام الجديد» الذين شاركوا فى صنعه، بخروجهم إما فى «25 يناير» أو «30 يونيو» أو كليهما.
الشباب «العاديين» الذين حاورتهم، قالوا إن التكثيف الإعلامى والإعلانى الهائل لحض الناس على التصويت بـ«نعم» فى الاستفتاء، أتى بنتيجة عكسية لديهم، خصوصًا بعد أن مارس الإعلام «إرهابًا فكريًّا» وصور التصويت بـ«لا» وكأنه خيانة للوطن، وحسب قولهم فإن ذلك كان متماثلًا لـ«الإرهاب الدينى» الذى سبق وروج له مشايخ وفتاوى الجماعات إياها، إبان الاستفتاء على «دستور 2012»، الذى اعتبر المصوتين بـ«لا» فى عداد الكفار. وبعض هؤلاء الشباب ذكروا سببًا غريبًا آخر، وهو أن جزءا منهم قاطع الاستفتاء، أو ذهب ليقول «لا» فقط من باب «العند»، ردًّا على تلك الحملات الإعلامية والإعلانية المكثفة.
هناك سبب آخر ساقه الشباب، وأجمعوا عليه بمنتهى الحماس، وهو أنهم استاؤوا كثيرًا من منع برنامج الإعلامى الساخر باسم يوسف، وقد يبدو هذا السبب تافهًا أو طريفًا أو مستغربًا عند البعض، لكنى أراه شديد الوضوح فى فهم كيف تفكر هذه الشريحة العمرية المهمة جدًّا لبناء مستقبل الوطن، إذ أعربوا عن اعتقادهم بأن وقف «البرنامج» دليل على أن النظام الحالى يضيق صدره بسرعة بالنقد إن كان موجهًا إليه أو لأحد رموزه، ويفرح به ويثنى عليه إن كان ضد خصومه. ورغم أنهم أعربوا عن ثقتهم فى أن إدارة القناة الفضائية التى كانت تعرض «البرنامج» تصرفت من تلقاء نفسها، ومن دون ضغوط من السلطة الحاكمة، فإنهم كانوا يتمنون أن تعلن هذه السلطة «بوضوح شديد» استنكارها لقرار المنع، وأنها مع حرية النقد حتى ولو كان ضدها.
أعود إلى تصرف الحكومة، التى تحركت بالأسلوب القديم والعقيم ذاته، إذ أوفدت عددًا من مسؤوليها للحوار مع «شباب الحركات الثورية»، وقد يكون هذا مهمًّا، لكن الأهم منه هو الحوار مع الشباب العادى جدًّا، طلاب الجامعات وشباب المقاهى والعاكفون المنكبون على مواقع التواصل الاجتماعى. وأقصد هنا الحوار الميدانى المباشر، وليس عن طريق تكثيف الجرعة الإعلامية والإعلانية عبر برامج «التوك شو»، التى خرج بعض مقدميها، خلال اليومين الماضيين، وببراءة يُحسدون عليها، ليتحدثوا ويحللوا ظاهرة عزوف الشباب، ربما بعد أن جاءتهم «الإشارة» من هنا أو هناك، خصوصًا بعد أن تناثرت أنباء عن «غضب» القوات المسلحة وقائدها من بعض الحملات الإعلامية، خصوصًا محاولات بعض القنوات ومقدمى البرامج لتشويه ثورة «25 يناير» أو رموزها.
هذه الحملات الإعلامية التى تتحرك بالإشارة، لا يدرك أصحابها أنهم يزيدون الشباب عنادًا، وهذا «نذير شؤم» جديد على مستقبل الوطن.