تَحدَّثنا أمس عن قصة المعتصم وفتح عمورية، وتحدثنا عن محنة خلق القرآن، وعن تبنى الخليفة السابع فى الدولة العباسية الخليفة المأمون المذهب المعتزلى، وتعنُّته فى قضية خلق القرآن واعتباره كل من اختلف معه فى الفكرة المذهبية هم أعلام الكذب ولسان إبليس وأنهم شر الأمة ورؤوس الضلالة، وهو يتحدث عن علماء السنة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وتحدثنا كيف قُيِّد وسيق إلى طرسوس ومات صديقه محمد بن نوح ودفنه ورجع إلى بغداد ليُودَع فى السجن، انتظارًا لتنصيب الخليفة المعتصم. يسير المعتصم على نهج أخيه فى طريق الفتنة بوصية منه، ويجابه الملكُ الجديد ابن حنبل عدة مرات فى حضور الرأس الأصلى للمحنة القاضى ابن أبى دؤاد، ولا يستطيع المعتصم بعد شهور عديدة من السجن والقيد أن ينتزع من ابن حنبل الموافقة على قضية الانحراف، فيُجلَد الإمام الجليل ويعذَّب ويودع السجن لمدة بلغت ثمانية وعشرين شهرًا (هذا يحدث فى خلافة المعتصم)، ويحكى الحنابلة أنْ أقبل المعتصم وجلس على كرسيه، فقال: هاتوا أحمد بن حنبل. فجىءَ به، فما إن وقف بين يديه حتى قال له المعتصم: كيف كنت يا أحمد فى محبسك البارحة؟ فقال بخير، والحمد لله، إلا أنى رأيت يا أمير المؤمنين فى محبسك أمرًا عجبًا، قال له: وما رأيت؟ قال: قمت فى نصف الليل فتوضأت للصلاة، وصليت ركعتين. فقرأت فى ركعة «الحمد لله» و«قل أعوذ برب الناس» وفى الثانية «الحمد لله» و«قل أعوذ برب الفلق» ثم جلست وتَشهَّدت وسلمت، ثم قمت فكبَّرت وقرأت الحمد لله» وأردت أن أقرأ «قل هو الله أحد» فلم أقدر، ثم اجتهدت أن أقرأ غير ذلك من القرآن فلم أقدر. فمددت عينى فى زاوية السجن، فإذا القرآن مسجًّى ميتًا، فغسَّلته وكفَّنته، وصلَّيت عليه ودفنته. فقال له: ويلك يا أحمد! والقرآن يموت؟ فقال له أحمد: فأنت كذا تقول إنه مخلوق، وكل مخلوق يموت. فقال المعتصم: قهرَنا أحمد. فقال ابن أبى دؤاد وبشر المريسى (من علماء المعتزلة): اقتله حتى نستريح منه، فقال: إنى قد عاهدت الله أن لا أقتله بسيف ولا آمر بقتله بسيف، فقال له ابن أبى دؤاد: اضربه بالسياط. فقال: نعم. ثم قال: أحضروا الجلادين. فأُحضروا. فقال المعتصم لواحد منهم: بكم سوط تقتله؟ فقال: بعشرة يا أمير المؤمنين. فقال: خذه إليك. فأُخرج أحمد من ثيابه وائتزر بمئزر من الصوف، وشُدَّ فى يديه حبلان جديدان، وأخذ السوط فى يده، فضربه سوطًا. فقال أحمد: الحمد لله، وضربه ثانيًا فقال: ما شاء الله، فضربه ثالثًا، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فلما أراد أن يضربه السوط الرابع نظرتُ إلى المئزر من وسطه قد انحل، ويريد أن يسقط، فرفع رأسه نحو السماء وحرك شفتيه، وإذا الأرض قد انشقت، وخرج منها يدان فوزرتاه بقدرة الله عز وجل (رواية الحنابلة)، فلما نظر المعتصم إلى ذلك قال: خلُّوه، هذا هو المعتصم...
فمن يقُول «وامعتصماه»، يناشده أن ينقذ المسلمين من التآمر الخارجى ويحرر قرارنا الوطنى من التبعية أو يأتى بحق الفتيات اللاتى تم هتك عرضهن فى التحرير على مدار السنوات الثلاث الماضية فى حوادث متفرقة، أو يقول «وامعتصماه»، حتى يخلصه من علماء أهل السنة سواء كانوا من علماء الأزهر وكذلك الجامعة الإسلامية فى السعودية، وكل أهل السنة.
وربما تكون هذه هى المسافة التى نتحدث عنها دائمًا، بأن يكون رئيس الدولة بعيدًا عن الخلاف المذهبى والفقهى، وأن يكون هذا الخلاف مكانه هو قاعات الدرس والمناظرات الفكرية وربما الكتب والمقالات، ويهتم رئيس الدولة بشؤون المسلمين الدنيوية من إسكان وتعليم وصحة وبنية تحتيه وبطالة، وعدالة وتكافؤ فرص، فالفصل الجزئى بين الدين والدولة أو بشكل أدق بين الدين والإدارة التنفيذية للدولة، مطلوب.
أما المؤسسات الأخرى كالقضاء والسلطة التشريعية، فمن المؤكد أنها تأخذ بالدستور (مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع)، وإلا نرضى بهذا الوضع الذى مارسه المأمون ومن بعده المعتصم.