قابلته فى مدخل لجنة انتخابية، مصرى بسيط بشوش فى منتصف الأربعينيات من عمره، يعمل بوابا فى برج سكنى قريب، سألنى بجدية مفرطة: قل لى بصدق: ما رأيك؟
أجبته مؤكدا: الأيام القادمة ستكون أفضل.
رد بسرعة: ليس هذا ما أقصده يا أستاذ.. هل يمكن أن يرجع نظام حسنى مبارك ويحكمنا؟ هل هذا الدستور يحمينا فعلا؟!
وراح يروى واقعة حدثت له منذ سنوات فى محافظته الجنوبية، حين اختلف مع ابن عمه، وكان مخبرا فى الشرطة، وكيف قبضوا عليه من على المقهى، واقتادوه إلى ضابط المركز، وأهانوه سبابا بالأم والأب، و«لطشوا» له، وطلبوا منه أن يسلمهم بندقية آلية، وانتهى الأمر بأن دفع ألفين من الجنيهات ونفد بجلده من تلفيق قضية إحراز مخدرات، أخرجها الباشا من درج مكتبه!
قلت له: حادثة فردية دبرها لك ابن عمك وتورط فيها ضابط منحرف، لكن الدنيا تغيرت فعلا!
فسألنى وهو يمضى فى طريقه إلى صندوق الانتخابات: يعنى لن تعود الشرطة كما كانت قبلا!
وغاب عن بصرى قبل أن أرد.. ولم يغب سؤاله عن عقلى، فقد شغله تماما، لا أقصد سؤاله عن الشرطة وإنما عن عودة نظام مبارك، خصوصا أن الكلام قد زاد فى الفترة الأخيرة عن إعادة ترميم قوات الحزب الوطنى بعد اندحارها فى ثورة ٢٥ يناير، وهى تستعد لهجوم مضاد تستعيد به أرضا فقدتها، ودفعت بالفعل بفصائل استطلاع متقدمة من بعض رموزها إلى الفضائيات والصحافة والساحة السياسية، وبدوا كما لو أنهم يمهدون الطريق للغزو القادم!
ونعود إلى السؤال: هل يمكن أن يعود نظام مبارك؟!
الإجابة: قطعا لا ومستحيل، لسبب بسيط وساذج جدا وهو أن نظام مبارك لم يرحل أصلا، فكيف يعود ما لم يذهب، فقط تخلصنا من قياداته فى الرئاسة والبرلمان والمحليات وبعض الأجهزة التنفيذية، وأيضا من الوجود الرسمى للحزب الوطنى، وهو هيكل سلطوى هش ارتبط بالرئيس، ومع غياب الرئيس يذوب تلقائيا كما يذوب الجليد مع شمس الربيع، لكن النظام نفسه لم يصب ولا بطلقة خرطوش واحدة، ولا حتى بلكمة قاضية فى ذقنه تفقده وعيه، فقط «حصلت له خضة» وضربت ركبه فى بعضها وبعدها استقام عوده، وحاول الإخوان الاستعانة به والاستحواذ على امتيازاته، وفى النهاية ما زال يحكمنا، مع بعض التغييرات الطفيفة فى التفاصيل، التى لا تمس جوهره، فالنظام هو مجموعة «القواعد» التى تدير حياة المصريين وثرواتهم فى كل الأنشطة: اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ورياضية وفنية، وهذه القواعد كما هى تدير نظاما فاسدا جائرا، لم نقض عليه حتى الآن، وهو الذى أفسد علينا حياتنا: فى الصحة فصارت الأمراض المستوطنة فينا ظاهرة طبيعية، والتلوث حالة عامة، فى التعليم فيتخرج فى مدارسنا تلاميذ لا يفرقون بين الألف وكوز الذرة، ويجهلون عمليات الحساب البسيطة، ومن جامعاتنا خريجون يسلمون عقولهم لأمراء وأدعياء للدين ولا يعرفون التفكير العلمى المنظم، فى الإسكان فيعيش أكثر من نصف المصريين فى عشوائيات على امتداد الوطن وفى أحواش المقابر، وفى القضاء فيعانى المصريون من بطء التقاضى وعطب الإجراءات وغرابة الأحكام وترسانة من القوانين تشد الكرة الأرضية إلى الخلف، فما بالك بدولة، ونفس الحال فى النقل وتنظيم البناء وسير المرور وانفلات الأسواق وضعف التدريب وهبوط الأداء العام.. إلخ، باختصار نظام أوصلنا إلى القاع، ويتعارك فيه المصريون على رغيف خبز وأنبوبة بوتاجاز وفرصة عمل، حتى ممارسات الشرطة التى حكى عنها هذا المصرى البسيط هى بعض أعراض النظام الفاسد.
ويبقى المستفيدون من هذا النظام المهترئ، وهم مجموعات قادرة على التحكم فيه بنفوذها ومكانتها وثرواتها، تستحلب خيراته وتتجنب شروره الكثيرة، وتقاتل من أجل بقاء الأوضاع على ما هى عليه.
ودورنا الآن هو تأسيس نظام عام جديد سواء جاء عبد الفتاح السيسى رئيسا بإلحاح المصريين، أو ظل على رأس المؤسسة العسكرية لأسباب هو يقدرها.
وقد يكون الدستور مجرد خطوة أولى، ودون تغيير هذا النظام الفاسد سنعود إلى الوراء مليون خطوة، فالديمقراطية ونزاهة الانتخابات كلها مجرد وسائل، والغاية هى تحسين جودة الحياة فى كل جوانبها، فلا حرية للجوعى والفقراء، ومن يقل غير ذلك فهو كاذب ومضلل، وعلينا أن نحول مواد الدستور وفلسفته إلى قوانين تعيد تنظيم أنشطة المصريين وتدير ثرواتهم على أسس من العدالة والتكافؤ والمساواة دون استثناءات لأى فئة أو طائفة من الشعب، الرئيس كالخفير، والكاتب كالعامل، والرجل كالمرأة، فلا توريث لوظائف ولا امتيازات لفئات، وإحساس المصريين بالعدالة الحقة هو أول طريق التقدم والقضاء على نظام مبارك!