انتقد الكثيرون المشير سوار الذهب، لتركه السلطة سريعًا ليقع السودان فى خضم الصراعات والانقسامات، بعد أن أنقذه من حكم ديكتاتورى فى 1985. ربما كان من الأفضل لو ظل الرجل فى السلطة يُصلِح البلد، أو ظل على قيادة الجيش، ليحفظه موحَّدًا ويطمئن الشعب أن وراءه جيشا وطنيا يحمى إرادته دون تدخل فى إدارة الحياة السياسية. لم يكن سوار الذهب صائبًا فى ترك البلد ضعيفا. وجاء انقلاب البشير على حكومة مدنية ضعيفة، ليحيا السودان سنوات عجافًا تُوِّجت بانقسامه! ربما أسرف الرجل فى مثاليته وزُهده وذاتيته، ربما كان محدود الخبرة السياسية؟
فلا شك أن تعقيدات عالم السياسة والمسؤوليات الوطنية على القادة والسياسيين تحتّم تحليل الوضع بدقة ودراسة البدائل والنتائج المتوقعة، وأن يظل المحدد لمواقفهم هو الصورة التى يبغون بلدهم عليها. تُرى، ما تلك الصورة التى نودّ أن نرى بلدنا عليها؟ وما أنجع السبل لبلوغها؟
حرة، عادلة، ديمقراطية؟ وضَع الدستور الذى أقرَّه الشعب قواعد ذلك البلد. والخطوة التالية هى تحويل هذا الدستور إلى واقع، وسَنّ قوانين ووضع النظم لجعل كل مادة فيه واقعا. وننتقل من المرحلة الانتقالية إلى المرحلة التأسيسية، تأسيس دولة القانون، والفصل بين السلطات، وسيادة الأمة، والتأكيد أن شرعية الحاكم لا تستقيم إلا بخضوعه للدستور، والرضا الشعبى، ومراجعة تشريعاتنا، وتأكيد تعزيزها للحقوق والحريات وتفعيل آليات العدالة والمساواة.
محطتنا التالية إذن هو البرلمان. لكن مرة أخرى يسود جدل، البرلمان أولًا أم الرئاسة؟ ويعطى كثير من السياسيون والنخبة الأولوية للرئاسة! ولكن عذرًا، فتلك رؤية محدودة تختزل المرحلة مرة أخرى، وتختزل البلد كله فى شخص «الرئيس» مكرِّرة لأخطاء الماضى!
يرون أن الرئيس فقط، هو من يملك لَمّ البلد، وقيادته، وحسم الأمر، والبَتّ فى كل شىء! ولا نعلم هل يقصدون الرئيس كمنصب؟ أم هو شخص بعينه، تُعِينُه سماته الشخصية وقدراته الاستبدادية على كل ذلك؟
إذا كنا نريد البناء نحو الديمقراطية، فنحن نتحدث عن المنصب لا عن شخص بعينه، وقد حدد الدستور حدود ذلك المنصب، ويُخضِع الدستورُ الرئيسَ لأحكامه، على قدم المساواة مع المواطنين.
البرلمان هو الخطوة التأسيسية التالية فى بنائنا، وسن التشريعات، ومناقشة وإقرار الخطط والميزانيات، ومراجعة آليات الإصلاح والمراقبة والمحاسبة... لكن للأسف يريد البعض تتويج رئيسٍ فوق الجميع، رئيس يجىء ببرلمانه وحكومته، ليقر قوانينه وخططه وميزانياته!
الحجج التى تتحكم فى موقف الجميع تتعلق إما ببؤس حال أحزابنا وعدم استعدادها للانتخابات «نفس المقولة من ثورة يناير». يطالبون بالتأجيل، ويغفلون أنه بالنظر إلى حال أحزابنا، فالتأجيل سيستمر إلى الأبد؟ فلنلغِ فكرة البرلمان من أصله! ألم يَحِن أوان إخراج الأحزاب بعد طول الاختباء فى مقراتها؟ أجْبِرُوهم على الخروج إلى الشارع، والوجود بين الناس، ومواجهة حقيقة وجودهم وشعبيتهم. أما الحجة الأخرى فتتعلق بوجود الإخوان وحلفائهم، وإمكانية منافستهم وانتظار القضاء عليهم! ونردّ على تلك الحُجة بنفس براجماتيتها، فالإخوان اليوم فى أضعف وضع بين الناس، وقد يترك لهم الغد فرصة لإعادة تخدير كثير من فئات الشعب. البرلمان هو المحطة التى يجب أن لا نقفز عليها، وإلا انقلبنا خطوات إلى الوراء!
رئيسنا القادم؟
حسم البعض مبكرًا الحديث حول الرئيس، مع ارتفاع شعبية الفريق السيسى. اعتبر الكثيرون أن نتيجة الاستفتاء هى نتيجة استفتاء على مدى شعبية الفريق السيسى. وكل الحق لمحبى الرجل فهو المنقذ من الإخوان، والداعم لإرادة الشعب، وحاميهم اليوم مع تجدد الخوف من عودة الإخوان، ومع تجدد جدل النخبة اليوم حول ذلك؟!
لكن يخبرنا الفريق السيسى أن قيامه بدوره الوطنى لا يرتبط بوجوده فى مقعد الرئاسة، ونحن على ثقة بأن تفانى الرجل فى حماية ودعم إرادة الشعب لم ولن يتأثر بموقعه، ويجب أن لا يوحى أحد للناس بغير ذلك.
هل نريد للبلد أكثر من الحيلولة دون تداخل مؤسسات الدولة وهيمنة إحداها على الأخرى وأن يظل الجيش وقائده حاميًا للإرادة الوطنية، حائلا دون تغوُّل مؤسسة الحكم، وحائط الصد لأى محاولة للخروج على الدستور؟
رجل الدولة الذى نحتاج إليه هو من يؤمن حقًّا بحكم الدستور، ويُفعَّل سيف العدالة على الجميع، ويعيد الحق والكرامة إلى الفقراء والمهمشين، ويسهر على تخليص دروب الدولة من آليات ورجال الفساد. نحتاج إليه عادلًا حكيمًا، يعمل ولا يهتم إلا بالإنجاز، رئيسًا يرانا بوضوح، ويحترمنا بصدق، ويؤمن بحقوقنا وحرياتنا ويسهر عليها.
مَن نرشِّح لرئاسة مصر لفترة 4 سنوات قادمة تؤسس لدولة سيادة القانون والشعب؟ رئيس مصر القادم -فى رأيى المتواضع- هو مَن فى قصر الرئاسة الآن! المستشار عدلى منصور هو رجل المرحلة التأسيسية. وهذا ليس تقليلا من شأن أى مرشح سمَّى نفسه أو سماه الناس، كلهم وطنيون، ولكن لكلٍّ قدر ودور وميعاد!