فاتنى أمس أن أعترف «إن لم تكن عواطفى مفضوحة فعلا» أننى أحب شهر «يناير»، هذا الدافئ الحنون رغم أيامه الباردة.. هذا المضىء رغم كثرة ضبابه، الذى ما إن يحلّ فى مطلع كل عام جديد على جثة عام تسرب طاويًا، عام تسرب من عمرنا حتى يفتح الباب لآمال وأحلام حلوة قد لا تتحقق، غير أن «يناير» ليس مسؤولا وإنما غالبا العيب فينا نحن، وليس فى الزمن قطعا.
كان يكفى «يناير» لكى أحبه أن زعيم الأمة الخالد، الفقير أبو الفقراء جمال عبد الناصر، ولد فى يوم من أيامه الرائعة «15 يناير 1917» غير أنه شهر يفيض دائما بالثراء والكرم، فأهدانا سجلا حافلا ثمينا من ذكريات ملاحم وحادثات فخر وعز تستعصى على النسيان، وستبقى محفورة فى ضمير الوطن إلى أبد الآبدين.
يعنى مثلا، فى يوم 25 يناير سنة 1952، صنع نفر من أبناء مصر لوحة بطولية زاهية ومعجزة تضج بالبسالة والجسارة والطهارة والشرف الرفيع، وهو شرف ليس لهذا الوطن فحسب، ولكنه شرف للإنسان والإنسانية جمعاء. ففى ذاك اليوم البعيد أبت نفس بضع عشرات من شبابنا، جنود وضباط الشرطة فى مدينة الإسماعيلية أن يستسلموا ويسلموا مبنى المحافظة إلى قوة غاشمة من جيش الاحتلال البريطانى، الذى كان آنذاك جاثمًا على صدر الوطن، ورغم الاختلال الفادح والرهيب فى العدد والعتاد بينهم وبين قوات الغزاة، صمدوا وقاتلوا واجترحوا آيات معجزات من البطولة والتضحية، وبقوا يقاومون حتى سقط أغلبهم بين شهيد وجريح، ومن ثمّ سطروا بدمائهم الذكية وأرواحهم الطاهرة واحدة من أعظم الصفحات فى كتاب كفاح المصريين من أجل الفوز بالحرية والكرامة.
ويشاء القدر أن يشهد هذا اليوم نفسه «25 يناير» بعد 69 عاما، انفجارا ثوريا عارما وهائلا لا يخلو من دراما تاريخية نادرة ومثيرة جدا، ولكنها ليست غريبة على المصريين، ففى ذكرى حادثة البطولة الوطنية الخالدة التى سجلها رجال الشرطة انطلقت أحداث ثورة، كان واحد من أقوى عناوينها وأهم أسبابها هذا الظلم الفاحش الذى تعرض له أحفاد أبطال الإسماعيلية، على يد نظام تعفَّن من فرط فساده وطول استبداده وتوسله بالقهر الأمنى وحده، لضمان بقائه واستمراره وحماية مصالح قطعان لصوص ونشالين، اخترعهم من العدم، وجعلهم سببا لكل هذا البؤس والتخلف والعدم العمومى، الذى ضرب المجتمع بقسوة ونهش فى قواه الحية وأحشائه العميقة على مدى أكثر من ثلاثة عقود متصلة.
ومع ذلك، فبين هذين التاريخين المتوحدين فى رقم الأيام «25»، لم يبخل «يناير» علينا بهداياه القيمة، ونادرا جدا أن مرّ حلوله الرقيق المنتظم كل عام من دون أن يتحفنا بأحداث وانتفاضات، سوف تبقى تزين تاريخنا الحديث كله، ربما أعظمها عند جيل العبد لله انتفاضة الشعب فى 18 و19 يناير 1977، التى نستنشق اليوم عبق ذكراها العطرة.
وأخيرا، فإن «ينايرنا» الحالى لم يشأ أن يمر علينا عاديا هكذا، ولا يضع نفسه بين إخواته «الينايريات» فى موضع بارز متألق، لهذا أصر أن يسجل على صفحات أيامه تاريخين جديدين يتنافسان فى الخطورة والأهمية، أولهما تاريخ الإعلان الرسمى لموت أسوأ وأحطّ ظاهرة لوثت وسمّمت بيئة حياة فى بلدنا منذ نهاية عشرينيات القرن الماضى، وكانت واحدة من أقوى أسباب تعويق مسيرة تطورنا.. أقصد موت عصابة «إخوان الشر»!!
أما الثانى فهو تاريخ ميلاد «دستور» مصر الجديدة الحرة الناهضة المتقدمة، الذى يجمع بين دفتيه الحصاد الثمين لكل يناير عظيم، عَبرَ أزماننا الحديثة والمعاصرة، ابتداء من «يناير عبد الناصر» إلى «يناير الثورة»، التى خطفها الأشرار واستعادها المصريون فى 30 يونيو.. وكل عام وأنتم بخير.