كان شهر يناير 1977 قد غادرنا للتو، وبقى من انتفاضته الشعبية العظيمة بضعة آلاف من مساجين الضمير خلف القضبان. وفى ذاك الصباح البعيد كان العبد لله واحدا من نحو 30 من هؤلاء «أغلبهم طلبة»، لفظتنا جميعا سيارة الترحيلات الكئيبة من جوفها الحديدى أمام مبنى محكمة باب الخلق، حيث ستنظر إحدى دوائر الجنايات تظلماتنا من أمر «الحبس» الاحتياطى الروتينى، الذى تعودت نيابة أمن الدولة إصداره ضد كل من يمر ببابها من دون أدنى اعتبار لنتائج التحقيقات التى تجريها، إذ كانت آنذاك ولحقب طويلة بعدها، تكتفى بأن المباحث ترى أن المواطن الماثل أمامها يكره الحكومة والحكومة تكرهه، فتحبسه حضرتها فورا وخلاص.
تجمع الرهط المكبل بالقيد الحديدى الجماعى العتيق «كان يسمى (حجلات) ولست أعرف أصل هذه الكلمة» فى فناء المحكمة، تحيطنا جحافل عرمرم من قوات الأمن، وبقينا على هذه الحال دقائق، حتى انضمت إلينا بضع فتيات لفظتهن للتو سيارة آتية من سجن النساء فى القناطر.. عندئذ بدأ الاستعداد لإدخالنا إلى قاعة المحاكمة بتحرير أيادى الذكور من ربقة القيد الجماعى، واستبداله بقيود أخرى ثنائية ساوت تماما بين الجنسين، فكان نصيبى الارتباط بـ«كلابش» واحد مع فتاة رائعة تكبرنى فى السن وخبرة السجون والنضال.
المهم، دخلنا القاعة وترصصنا فى القفص الحديدى وسط صخب وزحام هائل من أهالينا وأصدقائنا وكتيبة عظيمة فخمة من المحامين المتطوعين للدفاع عنا، نحن سجناء الضمير.. وفى لحظة هتف الحاجب هتافه الشهير «محكمة» فابتلع الكل ألسنتهم وانسحبت الضجة بسرعة البرق، بينما كان المستشارون الثلاثة يتبوؤون مقاعدهم العالية فوق منصة العدل.. وبعد أن فرغ رئيس المحكمة من النداء علينا جميعا، وبعد أن فاته عمدا الأمر بفك قيودنا كما تقضى الأصول، دعا المحامين إلى بدء مرافعاتهم، وتواتر بروز كبارهم وراح كل منهم يشنف آذاننا بآيات من الأدب القانونى والسياسى الرفيع، بينما هو يترافع عن واحد أو أكثر من حضراتنا.. وظل الأمر يسير على هذا النحو، حتى جاء الدور على محام شهير «رحمه الله رحمة واسعة» شاءت الأقدار أن يكون من نصيب صديقتى ورفيقتى فى «الكلابش»..
دخل الرجل فى الموضوع مباشرة ومن دون مقدمات، وراح يستعرض التهم الثقيلة الموجهة للفتاة، وهى الانضمام إلى تنظيم سرى يهدف إلى قلب نظام الحكم بالقوة، وكتابة وحيازة وتوزيع منشورات ضد هذا النظام.. إلخ.
وما إن أنهى المحامى عرض التهم بتفصيل دقيق وممل، حتى شرع يبررها ويسوغها ولا ينفيها «رغم أن الفتاة أنكرتها كلها فى التحقيق». فبالنسبة لتهمة العضوية فى تنظيم سرى، قال ما معناه إن النظام الحاكم ديكتاتورى وقمعى ولا يسمح للناس بممارسة حق التنظيم وإنشاء الأحزاب.. ثم طفق سائلا بحماس شديد: هذه الفتاة ورفاقها من الشباب الوطنى الرائع، ماذا بحق الله يفعلون إذا كان النظام يحرمهم من هذا الحق الديمقراطى؟!
كنت على وشك أن أجاوب أنا من القفص، لكنه سبقنى وأجاب بصوت زلزل القاعة وأطار عقل رفيقة «الكلابش»: طبعا ليس أمام هذه الشابة إلا الاشتراك فى تنظيم سرى!!
لم يحفل المحامى بعاصفة الهمهمات المستنكرة المندهشة التى سرت فى القاعة، وإنما واصل بالحماس نفسه محاولة تسويغ تهمة كتابة وحيازة منشورات سرية، إذ بررها بأن النظام يحرم المواطنين من حق التمتع بحرية الرأى ويمنع وجود صحافة حرة فى البلد.. ورغم أن الهمهمات أضحت زئيرا مكتوما، فإن الرجل مضى فى مرافعة «دفاع الإثبات» كقطار الإكسبريس غير عابئ ولا مهتم، وكما فعل مع التهمة الأولى هتف بشأن هذه التهمة قائلا: ماذا بحق السماء تفعل شابة ثائرة مثل هذه «أشار بيده لرفيقتى»، وهى محرومة مثل كل المصريين، من حقها فى التعبير الحر؟!
بسرعة جاوبت أنا بصوت هامس: تعمل منشورات وتوزعها طبعا.. وكانت هذه هى عين إجابة المحامى، الذى اضطر إلى قطع سياق مرافعته عندما قفزت رفيقتى وجرجرتنى معها إلى مقدمة القفص وهى تصرخ قائلة: أنا ليس معى محام.. الراجل ده ماعرفهوش!! لكن هيهات، فقد أصر -رحمه الله- أن يختم مرافعته العصماء بسؤال فلسفى عميق وخطير جدا ألقاه على مسامع المحكمة والحضور كافة، بثقة وحماس شديدين، وهتف قائلا: سيدى الرئيس، حضرات المستشارين.. نظام سيئ وبهذه الشاكلة، ألا يستحق أن يناضل هؤلاء الشباب لقلبه وإزالته تماما ولو بالقوة؟!
لم ننتظر إجابته وإنما جاوبنا كلنا من القفص: أيوه عندك حق يا أستاذ.. ثم فطسنا من الضحك!!
و.. غدًا أقلب فى باقى صندوق أفضال و«هدايا» يناير.