حتى قبل إعلان النتائج الرسمية للاستفتاء، فقد تجلت مؤشرات مؤكدة ينبغى أن تدرسها بجدية جماعة الإخوان وحلفاؤها وقواتها الاحتياطية، أمثال حزب مصر القوية وجبهة الضمير ومن لفّ لفّهما، ومعهم من ليسوا منهم ولكن يحترمونهم، ومن لا يزالون يعصرون الليمون، ومع كل هؤلاء مَن تعمدوا مقاطعة الاستفتاء لأسباب مختلفة ولم يحسبوا أن نتائج مواقفهم تصبّ على الأرض فى صالح الإخوان، برغم أنهم يعلنون دوما عداءهم لفكر الإخوان ولانتهازيتهم ولسطوهم على الثورة وعلى السلطة، ويؤكدون رفضهم لاستبدادهم وإقصائهم للآخرين، وللفاشية الدينية التى سعىوا مع حلفائهم إلى تأسيسها فى مصر، معتمدين على إمكانيات الدولة التى بذلوا كل طاقتهم من أجل الاستيلاء عليها!
أهم الدروس هى الخسارة الشعبية المحققة التى مُنى بها الإخوان، ومعهم كل التيارات الدينية التى توهمت يوما أنه يمكن أن يستقر لها حُكم مصر، وقد أثبتت احتفاليات التصويت بنعم أن الملجأ الشعبى لم يعد لهم كما كان الحضن الحانى الوحيد طوال الحظر الرسمى الذى فرضته الدولة عليهم منذ العام 1948، وجاء رفضهم فى الاستفتاء موقفا تلقائيا طبيعيا ضد العنف الذى انتشر على أيديهم وتحت رعايتهم، والذى راح يضرب دون تمييز وأوقع الأبرياء قتلى وجرحى، وبدلا من أن يكون الاعتذار والأسف عن الجرائم الدامية كان التهديد الصريح بالاستمرار فى العنف المخيف، وقد أثبتت مظاهرات الاستفتاء أن هذا الفصيل صار وحده فى الساحة!
ينبغى التوقف أمام مشاهد النساء اللائى خرجن للإدلاء بأصواتهن فى مظاهرات غير مسبوقة ملأنها بالغناء والزغاريد والرقص والضحكات مرسومة على الشفاه وهن يعلن بهجتهن بالخلاص من حُكم الإخوان!
كان حضور النساء طاغيا وصل فى اليوم الأول إلى 55 بالمئة! وكانت أغلبيتهن الساحقة واضحة فى التصويت بنعم، وفى المجاهرة بأن هذا ضد الإخوان، بل أعلنت الكثيرات عن تأييدهن للسيسى الذى يعتبره الإخوان عدوهم الأول!
كان العجب العُجاب أن يقصر فهم الإخوان عن استيعاب المعانى والمدلولات السياسية والاجتماعية والفكرية لهذه المظاهرات النسائية ولهذه الهتافات، واكتفوا كعادتهم بالقشور ولم يعملوا على سبر غور الحدث المُرَكَّب، بل أصرّ أحدهم عن الإعلان عن عجزه عن الفهم وهو ينعى إلى الشعب المصرى هذه «الخلاعة»! وأنها ما كانت لتحدث تحت حُكم الإخوان! وكأنه يتعمد تأكيد صحة مخاوف النساء منهم، وكأنه يُعزز منطق رفض الجماهير لتزمتهم المقيت المستورَد من خارج مصر والذى يعجز عن فهم التدين المصرى وعن كيفية ممارسته وعن أساليب التعبير عنه، وعن أن البهجة والإعلان عنها هى أصل أصيل فى الطابع القومى للمصريين، وعن أن المرح البريئ يمارسه المصريون ويتقبلونه برحابة وحبّ.
وفى لقطة معَبِّرة وقفت سيدة شابة أمام إحدى لجان الاستفتاء تهتف: «تحيا مصر، ويسقط الإخوان»، وكرَّر حشد من النساء الهتاف بصوت مدوٍ! فهل أدرك الإخوان المعانى الخطيرة التى ينطوى عليها الهتاف والتى أوضحها أن حياة مصر صارت مشروطة بسقوط الإخوان؟
هل يمكن أن يفهم الإخوان معنى ما حدث وأسبابه وما سوف يترتب عليه؟
المُرَجَّح أنهم لن يفعلوا، لأنه ليس لديهم فضيلة الاعتراف بالخطأ، بل سيجتهدون فى المجادلة بأن كل الأسباب جاءت من خارجهم فى سياق المؤامرات الكونية ضدهم، بل إن الاستفتاء مزور مسبقا لصالح أعدائهم، ومن المتوقع أن يطعنوا فى النتائج، ليكون الحدث الجلل مثل سوابقه فى تاريخهم المملوء بالدروس التى سقطوا فيها، ودأبوا على تكرار نفس الأخطاء وكأنهم لا يتعلمون من التراكم!
ومن وقائع الاستفتاء المشحونة بالمعانى السياسية المباشرة، وفيها مضامين كامنة سوف تسفر عن نفسها مستقبلا فى سياقات أخرى، هذا التصدى من عدد من البسطاء للقاضى رئيس اللجنة بسبب التلكؤ فى عمليات التصويت، وعندما تقدموا إليه بالشكوى كان عنيفا غليظا، وقال لهم: «اللى مش عاجبه يمشى»! فاعترضوا ضده وهتفوا بشعار: «مش هانمشى، هو يمشى»! وأصروا على طرده وإحضار قاضٍ آخر بديلا عنه، فما كان من القوات المنوط بها ضبط الأمن فى اللجنة إلا أن أخرجته وهى تحميه من أيادى الغاضبين، الذين نجحوا فى فرض قاضٍ أخر أبدى الحيدة والجدية فى عمله!
وقد ظهر على التليفزيون الدور الإيجابى الفاعل لعدد من النساء فى هذه الواقعة وفى غيرها، وكأنهن يثبتن بالممارسة العملية التى لا تحتمل التأويل أنهن على غير ما يعتبرهن الإخوان وحلفاؤهم، وأنهن جديرات بما حصلن عليه فى الدستور الجديد، بل بالمزيد، وأنهن لن يتهاونّ فى حقهن بالمساواة وهو ما ينكره كل من ينتمون لتيارات الإسلام السياسى، ويتعنتون ضده إلى أقصى حد، إلا عند الضرورات العملية الانتهازية عندما يحتاجون للنساء فى مثل الجرائم الجامعية التى ظهرت فيها حرائرهن فى أسوأ صورة يمكن أن تظهر بها إمرأة!!
لقد تغيرت مصر، وهو ما لم وما لن يفهمه الإخوان! وهى الحقيقة الجديدة التى ينبغى أن يضعها صوب عينيه أى حكم جديد!