إيران وحدها هى الهدف الرئيسى للسياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط
بعض المسؤولين الأمريكيين غير ملمِّين بالتفاصيل فى المجتمعات العربية التى يفترض أنهم متخصصون فى شؤونها
لقاء خاص مع جنرال حرب العراق.. وزيارة نادرة إلى «جبران»
بدأ هذا اليوم بداية مثيرة وانتهى بمتعة فائقة، كانت التعليمات الليلية بضرورة ارتداء الملابس الرسمية، لأننا سنتوجه فى الثامنة والنصف صباحا إلى مقر الخارجية الأمريكية، للقاء عدد من المسؤولين البارزين هناك. ارتدى الفريق العربى كله «اللى على الحبل»، وتمسك زميلنا الموريتانى «علال» بارتداء الزى الوطنى الذى يشبه العباءات الفضفاضة فى مصر، وكان ذلك محل تقدير من المسؤولين فى الخارجية الأمريكية حين التقيناهم، هذا لطف ومرونة أمريكية مميزة لأهل هذا البلد كما هو واضح.
فى الطريق إلى مقر الوزارة التى تلعب دورا أساسيا فى صناعة الحرب والسلام فى العالم، كانت شوارع واشنطن تضج بالحركة المنظمة، هذه مدينة تستيقظ مبكرا، ونادرا ما تجد فيها أحدا يرتدى الملابس الكاجوال أو الجينز فى أوقات العمل، الرسميات هنا تقليد أساسى، وليس رفاهية، وصلنا إلى المبنى الذى يستوجب الدخول إليه إجراءات أمنية مشددة، لكنها ليست زائدة عن المتوقع فى مكان بمثل هذه الأهمية والخطورة. مبنى الخارجية الأمريكية من الخارج غير مميز، هو مستطيل الشكل على مساحة واسعة، وفخامته من الداخل متوقعة أيضا ولا تتجاوز المألوف.
فى حجرة اجتماعات دائرية التقينا مسؤولين بارزين، أولهما «ريتش شمبرر» نائب مساعد وزير الخارحية لشؤون الشرق الأدنى، والثانى هو دينا بدوى نائبة المتحدث الرسمى باسم الخارجية الأمريكية.
قبل بدء الحوار، طلب منا أن لا يتم نشر ما سيدور فى هذه الجلسة، توقعنا أن يعنى ذلك أن نظفر برزمة من الأسرار التى يمكن للمرء أن يبيع فيها ضميره المهنى وينشرها فى جريدته، لكن ذلك كان أمرًا خادعا، فالجزء الأول من اللقاء، مع نائب مساعد الوزير، لم يستغرق وقتا طويلا بالأساس، ضاع أغلبه فى حديث دبلوماسى عام عن سياسات أمريكا فى الشرق الأوسط، للأسف لن أستطيع أن أبيع ضميرى المهنى مقابل محاضرة دبوماسية تقليدية، لكن هل يمكن أن يتغير ذلك عندما تتحدث دينا بدوى؟
من الاسم ثم اللهجة، عرفنا على الفور أن دينا مصرية، مصرية أى أنها مولودة بمصر ثم سافرت إلى أمريكا وتطور أداؤها بشكل لافت إلى درجة أن وصلت إلى هذا المنصب الهام «نائب المتحدت الرسمى باسم وزارة الخارجية»، ماذا قالت دينا لنا إذن؟
للأسف، اتفاقنا معها أن لا ننشر ما قالت، لكن ذلك الاتفاق لن يجعل القارئ يخسر كثيرا، وحسب ظنى فإن اتفاق عدم نشر ما دار فى الجلسة، لا يشمل رصد الانطباع عن الجلسة ذاتها.
حسنًا، نائبة المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية، تحاول طول الوقت أن ترتدى وجه الدبلوماسيين المخضرمين الذين يستطيعون الهروب من الأسئلة الحرجة بـ«اللف والدوران»، وردّ الأسئلة إلى أصحابها، لكنها تفعل ذلك بمجهود بدنى واضح، يظهر على تعبيرات وجهها، وتوتر أعصابها، والضغط على مخارج الألفاظ، هذا يستفز بداخلك هرمونات الصحافة بكل تأكيد، ويجعلك تواصل الضغط عليها لعلك تظفر برد فعل حاد أو تصريح كارثى، وهذا ما كاد يحدث بالفعل، لكنها تمالكت نفسها فى اللحظات الأخيرة، لا أستطيع أن أبوح لك بسؤالى الاستفزازى للأسف «آه من وجع الضمير الصحفى الذى يلزمك بعدم النشر طالما وعدت بذلك»، لكن الأكيد أن أداءها لم يكن مقنعا للمجموعة العربية وأعطى انطباعا بأن بعض المسؤولين فى الخارجية الأمريكية غير ملمين بدقائق الأمور فى المجتمعات العربية التى يفترض أنهم متخصصون فى شؤونها بالأساس.
اللقاءات المحظور نشر تفاصيلها، تكررت فى اليوم التالى مع أربعة من الباحثين البارزين فى مراكز التفكير التى تشارك فى صناعة القرار الأمريكى الخارجى، الباحثون الأربعة هم «فريدريك هرى» من مركز كارنيجى للسلام، و«جوستين لوجان» من معهد كاتو للسياسات الخارجية، و«ويليام تايلور» من معهد السلام الأمريكى، وهو المركز الوحيد الذى أسسه الكونجرس عام 1984 ويعد مؤسسة للأمن القومى تمول بشكل مستقل من الحكومة الفيدارالية، وأخيرا محمد المنشاوى زميلنا الصحفى المصرى المخضرم المقيم بواشنطن، من معهد الشرق الأوسط الذى له سمعة جيدة فى تقديم المعلومات والتحليلات غير المتحيزة عن المنطقة.
ولأن الاتفاق بعدم النشر لم يتم الحديث عنه صراحة ومباشرة فى هذه الجلسة، فأغلب الظن أن الكشف عن خلاصة ما دار فى الجلسة لن يوجع الضمير المهنى هذه المرة.
أهم النقاط على الإطلاق، حسب تقدير كاتب هذه السطور، هو ما قاله أحد المشاركين بوضوح بأن الاهتمام الأساسى للولايات المتحدة الأمريكية فى الفترة القادمة فى الشرق الأوسط سيكون حول إيران ليس أكثر، تحديدا، العمل على إدخال إيران لدائرة التفاوض حول مشروعها النووى «وهو ما سيتحقق بالفعل بعد هذه الجلسة التى تمت فى شهر نوفمبر من العام الماضى بعدة أسابيع»، وثانيا عدم السماح لدول الخليج الكبرى، وتحديدا السعودية بفرض مزيد من السيطرة على الخليج، أين القضية الفلسطينية والسلام مع إسرائيل؟ ما موقف أمريكا مما يحدث فى سوريا ومصر وتونس؟ والحرب على الإرهاب؟ لا يهم كثيرًا، كل هذا يأتى فى مرحلة تالية عقب كسر جبل الجليد مع إيران.
باحث آخر فسر لنا هذا التوجه، بقوله إن أمريكا نادمة كثيرا على أنها ظلت فى خصومة مباشرة وعلنية مع إيران لأكثر من ثلاثين عاما عقب قيام الثورة الإسلامية عام 1979، إذ إن الأمريكان اكتشفوا أن قطع العلاقات مع طهران لثلاثة عقود كانت خطأ فادحا على حد وصفه، وجعلهم يفقدون جزءًا من تأثيرهم ونفوذهم فى المنطقة، وهم الآن أى الأمريكان يحاولون معالجة هذا الخطأ الكبير، حتى لايفاجؤوا بتغيير كبير فى المنطقة دون أن يعرفوا أو يدركوا أسبابه، مثلما فوجئوا بالثورة الإسلامية فى إيران رغم أنهم نظريا كانوا يمسكون مفاتيح الحكم فى دولة الشاه.
المفارقة الكبرى هى ما قام به زميلنا العراقى «محمد شنانى»، إذ إنه طلب الكلمة عقب جملة نفعية عميقة قالها «تايلور» الباحث فى معهد السلام، الجملة كانت «ليس هناك صداقة منقوشة على حجر فى العلاقات الدولية»، حينها تحدث زميلنا محمد بلطف وهدوء، مفاجئًا تايلور بقوله إنه يعرفه ورآه عن قرب من قبل، اندهشنا جميعا، لأن هذه أول زيارة لشنانى لأمريكا مثل غالبيتنا، شنانى أضاف «لقد التقيتك فى بغداد.. لقد كنت واحدا من كبار الجنرالات الذين شاركوا فى غزو العراق، أليس كذلك؟!»، ارتبك تايلور قليلا، لكنه أجاب بالإيجاب بصرامة واضحة، مستفسرا عن الغرض من السؤال، لكن زميلنا العراقى لم يتحدث أكثر من ذلك مكتفيا بابتسامة ذات مغزى، فالمفارقة تغنى عن أى حديث وكلام، جنرال الحرب السابق عضو بارز فى منظمة ضاغطة على الإدارة الأمريكية من أجل السلام!
الخلاصة الأهم من هذا اللقاء، أن حتى مراكز التفكير التى تمول الإدارة الأمريكية بمقترحات مبتكرة للتعامل مع العالم الخارجى ليست بدورها ملمة بالتفاصيل أو الرؤى العميقة للتعامل مع المجتمعات العربية، هل كان هذا مقصودا؟ أن نلتقى بمن يعطينا هذا الانطباع؟ أغلب الظن أنه لا، ليس فقط لعدم الإيمان بنظرية المؤامرة، وإنما لأن غرضا رئيسيا من رحلتنا إلى أمريكا هو الانبهار بما يفعلون، وهو غرض تحقق بالفعل فى كل المجالات تقريبا باستثناء السياسة، والخارجية منها على وجه الدقة، هكذا يمكنك أن تخرج برأى قد يبدو متطرفا بعض الشىء، ومفاده أنه إذا كان 99% من الشعب الأمريكى غير مهتم بالسياسة الخارجية، فإن الواحد % المتبقى لا يعرفون كثيرا فى السياسة الخارجية نفسها!
بعد هذه الوجبة السياسية الدسمة، كان لا بد لنا من التحرك للبحث عن واشنطن التى لا يعرفنا بها مرشد سياحى أو المسؤولون بالخارجية الأمريكية، سألنا أهل المعرفة من مترجمينا ومرافقينا ذوى الأصول العربية، فكانت النصيحة بزيارة أماكن عدة، لا يكفيها شهر كامل وليس يومين فقط قبل التحرك إلى مدينة أمريكية أخرى.
تلقائيا وجدنا أنفسنا فى الطريق إلى واحد من أبرز معالم واشنطن على الإطلاق، National cathedral، كاتدرائية واشنطن الوطنية، التى تعد سادس أكبر كاتدرائية فى العالم. كنا هناك فى ذلك الوقت الساحر قبل غروب الشمس، والمبنى الضخم للكاتدرائية الذى يقارب مساحة ملعب كرة قدم تقريبا وربما أكبر، أمامه كالعادة مساحات خضراء تسر الناظرين، يتقافز فيها الحيوان الوطنى الأمريكى الشهير.. السنجاب طبعا وما يكون غيره؟
رغم ضخامة الكنيسة فإن الدخول إليها يتم عبر باب صغير الحجم، هل لغرض أن يشعر المرء أنه صغير أمام بيوت الله؟ ربما. فالدخول إلى كنيسة القيامة فى بيت لحم يتبع الإجراء ذاته بالمناسبة، كنا نحو 10 من الصحفيين العرب، بيننا المسيحى والمسلم، والمحجبة وغير المحجبة، لكننا فور دخولنا إلى الكنيسة، صمتنا جميعا وقد تملكتنا الرهبة والخشوع، هذا مكان يجبرك على ذلك، ويدفعك للتأمل فى ملكوت الله، خصوصا مع الارتفاع المهيب لسقف الكنيسة ورائحة البخور التى تتسلل إلى الروح، وصوت الصلاة الذى يلف المكان كله رغم أن الكنيسة كانت فى هذه اللحظة شبه خالية من المصلين، باستثناء كورال كان ينشد ترانيم على خلفية موسيقية فى مقدمة المسرح الذى يحتل مساحة كبيرة فى مقدمة الكاتدرائية من الداخل.
كنيسة واشنطن الوطنية، مَعْلم بارز فى بلد، على عكس ما يتوقع كثيرون، تتداخل فيه المفاهيم والتفسيرات الدينية بوضوح، لكن فى السلوك الإنسانى وليس السياسى، ولهذا فمن الطبيعى جدا أن تجرى فيها مراسم جنازات ثلاثة رؤساء أمريكيين بارزين، أولهم «أيزنهاور» عام 1969، وثانيهم «رونالد ريجان» عام 2004، وثالثهم «جيرالد فورد» عام2007، كما كانت المكان الذى صلى فيه عدد كبير من الرؤساء الأمريكيين صلاتهم الأولى بعد انتخابهم، من بينهم جورج بوش الأب والابن، وباراك أوباما نفسه فى المرتين التى جرى فيهما انتخابه عامى 2009 و2013، ومن هنا أيضا خرجت جنازة نيل آرمسترونج عام 2012، أول بشرى وضع قدمه على سطح القمر قبل ما يقرب من نصف قرن، «هل يضع هذا إذن حدًّا لأسطورة امتدت لسنوات عدة بأن آرمسترونج دخل الإسلام.. مش معقول كان مخبّى لغاية بعد مات كمان!»، كما أن الكاتدرائية ليست فقط مكانا للصلاة وخروج الجنازات، بل تعقد فيها العديد من اللقاءات مع المسؤولين الأمريكيين البارزين، والأجانب، وقد ألقى فيه محاضرات عدة وزيرا الخارجية الأمريكيين السابقين، مادلين أولبرايت، وكولين باول، بل إن الرئيس الإيرانى الأسبق ألقى فى الكاتدرائية ذاتها محاضرة عن التسامح الدينى عام 2006، عقب انتهاء فترته الرئاسية قطعا.
فى اليوم التالى، نصحنا «جو عبيد»، وهو مترجم وأحد مرافقينا النشطاء، بأن نزور «تذكار جبران خليل جبران» شاعر لبنان الأشهر، نتساءل فى دهشة.. هنا فى واشنطن؟ يجيب جو ذو الجذور اللبنانية وصاحب الثقافة الموسوعية ببلده الأصلى والمغرم بتاريخ فراعنة مصر، بأن هذا أحد أسرار الجمال الأمريكى، يمكنك عبر التبرعات وجماعات الضغط أن تستقطع مساحة من الأراضى المملوكة للدولة لتخلد فيها ذكرى أحد الخالدين، ولا تنسَ أن جبران نفسه كان أحد المهاجرين إلى أمريكا فى أواخر القرن التاسع عشر.
حسنًا يا جو أين يمكن أن نلتقى صاحب «الأجنحة المتكسرة» و«الأرواح المتمردة» هنا فى بلاد الغربة، وقد مسنا الشغف جميعا؟
النصب التذكارى لجبران، يقع فى منطقة راقية كغالبية أحياء واشنطن، لكنها بجانب ذلك، تبدو منطقة حساسة أمنيا، لأنها إلى جوار منزل نائب الرئيس الأمريكى، والسفارة البريطانية، هكذا كان المسموح لنا هو الوقوف لعشر دقائق فقط، لأن الأوتوبيس لن يستطيع انتظارنا أكثر من ذلك، خصوصا أنه لا يوجد هناك أى مساحة للانتظار.
المكان يضم تمثالا دقيقا لجبران بملامحه التى يظهر فيها ذلك المزيج العجيب بين حب الحياة والتسامى فوقها، وفى القلب توجد نافورة مياه صغيرة، ومقاعد دائرية، تسمح لمحبى الشاعر والمحبين إجمالا، بالجلوس قليلا والاستمتاع بروحه الهائمة فى المكان وضوء الشمس الحانى، وزقزقات العصافير.
بدأنا فى التقاط الصور التذكارية على عجل، وصوت جو يصرخ «يلّا يا شباب.. الأوتوبيس راح يمشى»، مهلًا يا جو، لن نلتقى بجبران كل يوم، بعد ذلك سنعرف أن هذا النصب التذكارى الجميل، تم بناؤه عام 1989، بمبادرة من سيدة أمريكية لبنانية، أوجعها أن لا يصل إلى الغرب شىء عن لبنان سوى دماء الحرب الأهلية، فأرادت أن تصنع هذا النصب، لشاعر بلادها الكبير، الذى للصدفة لم يزر واشنطن إلا نادرًا، بينما عندما هاجر مع والدته استقر فى بوسطن، وعندما رحل عن الدنيا فقد توفى فى نيويورك. فماذا فعلت هذه السيدة اللبنانية البطلة؟
أسست لجنة بغرض بناء نصب تذكارى للبنان، ووصفت اللجنة مهمتها عندما تشكلت عام 1984 بـ«حملة لتكريم جبران وكل ما يرمز إليه فى الثقافة الأمريكية العربية»، وللتذكير بأن «روح لبنان هى الشعر، وأن حلم اللبنانيين هو الحرية». وافق الكونجرس على الطلب، لكنه اشترط الحصول على مليون دولار من التبرعات لبناء النصب التذكارى، وهكذا بدأت حملة البحث عن تبرعات من مواطنين عربًا وأمريكيين ربما بعضهم لم يكن قد قرأ حرفًا من كتابات جبران، الذى باع كتابه الأشهر «النبى» 6 ملايين نسخة منذ أن صدر لأول مرة عام 1923.
فى نحو خمس سنوات فقط، تحقق الحلم، وبعد عام واحد فقط من بناء النصب التذكارى لتمثال جبران فى قلب واشنطن، توقفت الحرب الأهلية أخيرا فى لبنان عام 1990، فهل كان الرجل يبعث بتحياته من واشنطن؟
هرولنا مسرعين عائدين إلى الأوتوبيس، وقد بدأ يتحرك بالفعل، بعدما اقتربت منه سيارة شرطة لتستفسر عن سبب وقوفه فى هذا المكان، هل يعرفون أن جبران هنا؟ لا يهم كثيرًا، حتى لو كان النصب التذكارى وحيدًا ولا يزوره كثيرون، أو يمر عليه عابرون مثلنا، فالرسالة وصلت، والعبارة التى قرأناها بالإنجليزية محفورة فى قلب المكان «عندما تحب لا تقل فقط إن الله فى قلبك، بل قل أيضا إنك فى قلب الله»، وقد كتبها جبران منذ عشرات السنوات، سيظل يتردد صداها فى أرواحنا لسنوات طويلة.