«دستور ولا كل الدساتير» متحرر أحسن تحرير، مافيهش أمير ولا مأمور، ولا فهش صغير وكبير. «ردد هذه الكلمات محمد قنديل فى منتصف الخمسينيات وبها إشارة واضحة داخل الأغنية لإلغاء الأحزاب والذى اعتبرته الأغنية أفضل قرار من أفضل دستور، كنا وقتها عام 54 نعتبر أن تعدد وجهات النظر ووجود الأحزاب السياسية هو سر تمزق الأمة التى توحدت بعد ثورة 23 يوليو لتهتف وتقف جميعها خلف زعيم واحد ورأى واحد. كلمات الأغنية كما ترى ركيكة ولولا أن المذيعة قالت إنه الشاعر العملاق بيرم التونسى وإن الأنغام للملحن الرائع محمد الموجى ما كان من الممكن أن أصدق أنهما بيرم والموجى، هذه الأغنية قدماها فى الاستفتاء على الدستور الذى عدله جمال عبد الناصر. فى أحيان كثيرة عندما يتعرض الأمر لإعلان الولاء للدولة يضطر المثقف إلى أن يقدم للسلطة دلالة على أنه فى الصف مؤيدا وملتزما ومنضبطا، قارن بين هذا اللحن وما قدمه مثلا الموجى بعد عامين فقط بصوت نجاح سلام وتأليف إسماعيل الحبروك فى أثناء حرب 56 «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر» لتدرك أن الأمر مرتبط بالصدق فى التعبير، ولهذا ردد الناس «يا أغلى اسم... فى ثورتى 25 و30».
أغنية قنديل «دستور ولا كل الدساتير» كان ينبغى أن تظل فى الأرشيف، لأن صوت النفاق أسفر فى النهاية عن عمل فنى كاذب، ولكننا بعد مرور ستين عاما قررنا أن نكذب ونزور ونعتبرها تتغنى بدستور 2014، وتم بثها عدة أيام فى العديد من الموجات الإذاعية، المؤكد أن المستمع فى الحد الأدنى يعرف أن بيرم رحل عن دنيانا قبل أكثر من نصف قرن والموجى قبل قرابة عشرين عاما وقنديل قبل عشر سنوات.
كنا فى زمن مبارك كثيرًا ما نسخر من الإعلانات التى كان ينشرها «نبيل لوقا» مؤكدا أن «الجنين فى بطن أمه يريد مبارك رئيسًا مدى الحياة»، العلم أثبت أن الجنين يشعر ويحس ويفهم، وبالتالى من الممكن فى الزمن القادم أن يثبت أن لوقا كان عنده حق والجنين يريد بالفعل مبارك رئيسًا أبديًّا، ولكن حتى كتابة هذه السطور لم يثبت أحد أن الموتى من الممكن أن يغنوا للدستور.
قام أغلب الفنانين بالواجب وزيادة، فلماذ نقلب فى أوراق الماضى ونحن نريد الغناء للحاضر، شاهدت فى إحدى الفضائيات صفاء أبو السعود فى واحدة من أغانيها التى لحنها لها جمال سلامة وهى تغنى «فرحة مصر» وكنا نشاهد هذه الأغنية فى مطلع التسعينيات ويتخللها صور مبارك وسوزان فى وصلة نفاق تعودنا عليها، تم الاستبدال بالشريط المرئى فى التعديل الجديد صورًا للسيسى.
هل السلطة الحالية بحاجة إلى كل ذلك، أم أن هناك من يريد تأكيد ولائه مبكرًا للرجل القادم؟ البعض يعتبر أن الدستور هو حائط صد أمام الخطر الإخوانى الذى واجه الأمة المصرية وأسقطناه فى ثورة 30 يونيو، ولكن كل شىء فى الدنيا له جرعته القياسية، حتى النفاق تختلف أنواعه فهناك نفاق فج وردىء وهناك جيد الصنع.
الإذاعى الشاب إبراهيم حفنى فى محطة الأغانى كشف عن سرقة أغنية من تلحين محمود الشريف وكلمات محمد على أحمد، قدماها لدستور عبد الناصر، سرقها مؤلف وملحن بعد 50 عاما وقدماها باعتبارها مصنوعة لدستور 2014، سيقول البعض الغاية تبرر الوسيلة وإننا فى معركة وعلينا أن نستخدم كل الأسلحة، وأنا فى الحقيقة أرى أن الوسيلة يجب أن تكون شريفة.
الجرعة الزائدة مخاطرها أكبر، وما كان يمكن أن نتفهمه ونتقبله فى الماضى لا يمكن أن يعود الآن، زمن عبد الناصر الذى غنينا فيه للزعيم كان مرتبطا بطفولة فى المشاعر لها ما يبررها، أول مصرى يحكمنا، أجهزة إعلام محدودة جدًّا وكلها تملكها الدولة، حيث الخطاب الواحد المتكرر، وكل ما يأتى من الخارج هو العدو، إذاعة الـ«بى بى سى» كنا نواجهها بالصفارة الشهيرة على صوت المذيع والتى تمنع أن يعرف المصرى شيئا سوى فقط ما تريد الدولة أن يعرفه، الدنيا صارت فضاء مفتوحا، صوتا وصورة، لا يمكن السيطرة عليه. لماذا تشعرنى أجهزة الإعلام بأننا أصبحنا نعيش فى أرض النفاق.