(1)
أن تكون حملة لـ(نعم) فلا مشكلة. وأن تكون هناك حملة على (لا) فتلك مشكلة. وأن تكون الحملتان بقيادة الدولة فهذه مصيبة! وأن يتسابق فنانون تحيط السلطة، كل سلطة، بهم نفسها للتطوع بلعب دور (ضمير الأمة) السخيف فهو أمر فاق الاحتمال.
لم أتوقع أن تكون المخرجة الشابة ساندرا نشأت بين هؤلاء، فهى لا تملك خبرة صبحى ولا دموع بدير. لكن ساندرا تملك عدسة وكاميرا وتملك دعوة مفتوحة من برامج مديرية أمن إعلام الدولة وعلى رأسها اللواء إبراهيم حجازى والعقيد أحمد موسى (وهما لا يصلحان حتى لإذاعة مدرسية) وغيرهما، لكى تقول لنا «شارك» ويقول لنا فيلمها «شارك بسّ قُول نعم»! بأضعف أشكال الفيلم التحقيقى، وهو الشكل الاستسهالى الذى يستغنى عن التعليق الصوتى، وهو أيضا الشكل السائد فى الإعلام المصرى السبّوبى -إحنا لسه ح نكتب ونبدّع!- قدمت ساندرا نفس الرؤية الأزلية التى لخّصها عبد الوهاب حين قال «محلاها عيشة الفلاح». تنظر ساندرا إلى الشقاء باعتباره موضوعا جماليا! وإلى مصر تنظر باعتبارها وجهة سياحية! وإلى المصريين باعتبارهم (موديل) جماعيا غير عارٍ فى تمرين على الرسم! الكاميرا تفتنها الوجوه الطاعنة فى السن، فيكون نصف شخصيات «شارك» من العواجيز. وتحب الكاميرا لعب الطفولة، وماله؟! فتسأل ساندرا الأطفال عن صوتهم الدستورى، أما أنهم دون سن الانتخاب أصلا فتفصيل ثانوى غير مهم يعنى! لكن الفيلم -وهو فى الواقع أقرب إلى الإعلان- قال الحقيقة لحسن الحظ رغم أنف مخرجته الجميل، ذلك أن أيديولوجيا الواقع أقوى من أن تخفيها تماما آلة البروباجندا. قال الفيلم «نعم، ونعمين وستين نعم، بس خلّصونا»، قال «شايفين الفوضى حلوة ازّاى؟ وشايفين أداءنا فى الفوضى انسيابى ازّاى؟ شايفين المخرجة وهى تدير نصف حواراتها مع الشعب -وأربعة منه بالمناسبة كانوا على موتوسيكل واحد- وكلاهما منطلق على سرعة 80 كلم على طرق سريعة لأن هذا عادى وكيوت؟» هل رأيتم مدير المدرسة وهو يعزق الأرض ويصف عمرو موسى بالدكتور، وتساءلتم عمّ يفعل مدير مدرسة فى غيط فى أثناء يوم دراسىّ؟ ولماذا يعرف مدير مدرسة كيف يحصد الفجل بالمنجل ولا يعرف أن عمرو موسى لم يكن قط من حَمَلَة الدكتوراه؟ هل رأيتم الرجال بلا عمل سوى لعب الكوتشينة؟ هل رأيتم أطفال الشوارع حين (اشتغل) أحدهم ساندرا وقال لها «نفسى أطلع ظابط»؟ لم تسأل ساندرا نفسها طبعا إن كانت كل هذه الـ«نعم» للدستور ونعم للسيسى ستحقق فعلا حلم الطفل الساخر منها ومن العالم وتعطيه فرصة ليكون ضابطا، لم تسأل لأن هذا ليس شأنها ولا شأن الفيلم الإعلانى ولا شأنا من الشؤون المعنوية حتى!
يا خوفى! يا خوفى من الرسالة التى قالها الناس عبر ساندرا ورغم ساندرا، ولا علاقة لها لا بالإخوان ولا بيونيو ولا حتى بيناير. قالوا: «لقد تعلمنا كيف نعيش فى القرف والفساد والتفسخ عبر عقود طويلة. رجّعوا لنا القرف لو سمحتم!».
ورغم الـ1000 نعم فى الفيلم، فإن الصدى الذى يبقى بعده هو لصيحة ألم أطلقها سائق حنطور فى الأقصر:
«نعم وستين نعم يا مدام! جُعْنا! جُعْنا يا ست الكل!».
(2)
إبراهيم ماشافش حاجة.
لا أناقش مصداقية شهادة إبراهيم عيسى فى محاكمة مبارك، وهو الأمر الذى شغل الرأى العام هذا الأسبوع. مادام إبراهيم قد قال، فهو بالنسبة إلىّ صادق فى ما قال، فأنا لم أجد فيه كاتبا وزميلا وصديقا ما يدعونى إلا إلى تصديقه. ولكن ليس هذا هو الموضوع. الموضوع هو السؤال الكبير: لماذا يحتاج القضاء المصرى إلى شهادة إبراهيم عيسى؟ ما أهميتها، ما دامت وصلت إلى القاعة متجاوزة المعتاد من محاضر الشرطة وتحقيقات النيابة؟ والسؤال غير موجَّه إلى إبراهيم وإنما إلى جهاز القضاء الشامخ.
الشهود فى القضايا نوعان: شهود إثبات وشهود نفى. ما دامت النيابة هى التى استدعت إبراهيم حسب روايته، واستمعت إليه، ثم طلبت شهادته أمام القاضى، إذن فهو شاهد إثبات. أين الإثبات فى شهادته؟
هو أيضا ليس شاهد نفى! فكيف يمكن لشاهد واحد أن ينفى تهمة عن مئات الألوف من المتهمين متوزعين على طول البلاد وعرضها؟ هل شاهدهم كلهم فى نفس الوقت حتى يمكن أن ينفى عن «الشرطة» بـ(ال) التعريف الحصرية، تهمة قتل المتظاهرين، برضه بالـ(ال) نفسها؟! طيب إذا كان الكلام عن ميدان التحرير تحديدا، فلماذا إبراهيم عيسى يُستدعَى كشاهد من بين مئات الألوف الموجودين وبينهم من هو أطول فيرى أبعد، ومن هو أكثر شبابا فيتحرك أكثر ويرى أكثر ويتجرأ أكثر على الوجود فى خطوط الصدام الأمامية؟!
ثم هل يمكن أن يكون لشهادة كلها «أعتقد» و«ليس لى علم» إلخ.. وزن قانونى؟
فما أهمية شهادته، عدا أن تهتم بها الصحافة، وأن يراها البعض خيانة، ويراها البعض الآخر بطولة، ويراها البعض الثالث وفاء، ويراها البعض الأخير إلصاقا للتهمة بالإخوان؟
وأراها أنا شهادة شاهد.. ماشافش حاجة.