قرأت مؤخرًا بحثًا مهمًّا ومثيرًا (لكنه قديم) عن السينما الألمانية أيام النظام النازى، وكيف تصرف صناعها الكبار أمام الوحش الهتلرى قبل أن يضطر أغلبهم إلى الهجرة والهروب من الوطن حتى اندحر النازيون وحلفاؤهم الفاشيون تاركين خلفهم دمارا شاملا وخرابا هائلا وشلالات من الدم هى الأكبر والأسوأ فى تاريخ البشرية (أكثر من ٣٠ مليون قتيل).
فى هذا البحث لاحظ كاتبه سيجفريد كراكور أن السينمائيين الألمان استعانوا فى نهاية عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى بأسطورة رعب أضحت فى ما بعد الأشهر والأوسع استخداما فى السينما العالمية، ألا وهى أسطورة مصاص الدماء «دراكولا» (أو «نوسفراتو» فى بعض اللغات الأوروبية) واستوقف كراكور أن عددا ليس قليلا من مبدعى السينما الألمان توسلوا بشخصية هذا الكائن الشائه القاسى، والتى كان الكاتب الأيرلندى برام ستوكر قد استدعاها فى آخر سنوات القرن التاسع عشر من حكايات شعبية خرافية نسجها العامة حول سيرة حياة أمير حقيقى عاش فى مقاطعة ترانسفاليا بوسط أوروبا فى القرون الوسطى، وحولوها إلى أداة تعبير سينمائى بليغة عما ينتظر الوطن الألمانى من رعب وفظائع وحشية بعد صعود الحزب النازى إلى السلطة (على فكرة.. أودلف هتلر وحزبه صعدا للحكم «بالصناديق» أيضا، لكنها لم تكن صناديق ملعوبا فيها مثل صناديق جماعتنا، وبأغلبية كاسحة وليس مجرد أكثرية كما حدث عندنا).
«دراكولا» الأصلى أو الأمير «فلاد» الذى استلهم منه ستوكر قصته ذائعة الصيت (سِيطُها غطَّى على اسمه تمامًا) قبل أن يجعلها رواد السينما التعبيرية الألمانية واحدة من أهم وسائل المقاومة الفنية للخطر النازى، هذا الأمير كان حاكما دمويا رهيبا وشديد القسوة، لهذا عندما «تأسطر» تحول فى مخيلة بسطاء الناس من إنسان طبيعى إلى غول يتخفى فى ملامح بشرية حتى تواتيه الفرصة فتبرز أنيابه المخيفة فجأة وهو ينقض على جسد الضحية راويا ظمأه وعطشه إلى الدم.. كما أنه كائن ظلامى يعيش فى قبر مظلم ولا يتألق إلا فى عتمة الليل ويكره النور عموما ونور شمس النهار بالذات، لأنه يؤذيه ويضعف قواه، وقد اختار العقل الشعبى الأسطورى وسيلة ذات مغزى لقهر هذا الغول، ففضلا عن الضوء فإن الخلاص التأم منه ومن شروره لا يتم إلا باستخدام ثمرة الثوم مع دق وتد (على شكل صليب) فى صدره.
أما المغزى الراقد فى مقاومة مصاص الدماء بالثوم والصليب فإنهما كانا فى العصور الوسطى الوسيلة الشعبية الشائعة للوقاية من خطر الفئران والجرذان باعتبارهما المسؤولين عن نقل ونشر داء الطاعون فى مناطق أوروبا المختلفة.
وبعد، فلست أعرف الحكاية الشعبية المناسبة فنيا للتعامل مع طاعون جماعات الشر التى داهمتنا، وحاولت أن تخطف بلداننا وأوطاننا وتنهش فى اللحم الحى لمجتمعاتنا، لكنها لو كانت استمرت ولم يدفنها شعبنا العظيم إلى الأبد فى مقلب زبالة التاريخ، فربما كنت نصحت مبدعينا بحكاية «أمِّنا الغولة»، فهى تبدو لى (مع بعض التحوير والتعديل) تعبيرًا معقولا عن طبيعة الخطر الوجودى الداهم الذى كان يتربص بنا عندما كانت الغيلان المسعورة تعافر لكى تتمكن من رقبة البلد.. الحمد لله ربنا ستر.