يقول ما قاله من قبل مبارك ومرسى وكل من حكم مصر. قالها فى أول إشارة إلى موافقته على الترشح للرئاسة.
قال إن الكرسى مكتوب عليه اسم من سيجلس عليه، وهو مفهوم للسياسة يلغى منها إرادة الشعب أو التنافس ويجعل المنتصر اختيارا إلهيا.
لماذا لا يقدم المرشح نفسه بما لديه من برنامج سياسى ورؤية لمستقبل البلاد؟
لماذا لا يتواضع كل مرشح ويقدم قدراته وإمكاناته وتصوراته لما يمكن أن تكون عليه سنوات حكمه، لا يتعامل على أنه إلهام السماء ووحيها ليختاره الشعب؟
لماذا يرى الرؤساء أنهم أقدارنا وليسوا اختياراتنا؟
لماذا أعيد ما كتبته أيام مبارك.. كلما ظهر رئيس أو مرشح ليقول إنه اختيار الله.. كتبت المقال أول مرة، حين سأل صحفى ألمانى مبارك فى مؤتمر صحفى مع بيرلسكونى عن نيته للترشح للرئاسة.
أجاب مبارك مبتسما: الله وحده الذى يعلم.
الصحفى أعاد السؤال بطريقة أخرى: من تُفضل لخلافتك؟
والرئيس كانت إجابته مذهلة: «من يعلم.. من يعلم.. الله وحده يعلم من يكون خليفتى».
مبارك نظر إلى السماء وهو يكمل الإجابة: «أفضل من يفضله الله».
هذا أول حوار مباشر عن طريقة تفكير الرئيس مبارك فى عملية انتقال السلطة.
الرئيس يفكر فى التغيير بمنطق «الاختيار الإلهى».
ورغم أنه من الناحية العلمية، الله لا يختار الرؤساء.
فإن ما يقوله الرئيس يعنى واحدة من ثلاث:
الأولى أن الرئيس مؤمن بأن الرئاسة قدر لا يملك أن يغيره إلا الله.
والثانية أنه اقترب من الفكرة التى يؤمن بها المغرمون بالدولة الدينية الذين يرون الحاكم وكيل الله، أو أن الله الذى يختار الحاكم، فمن يغير إرادة الله.
والثالثة أن الرئيس مبارك وصل بعد ٣٠ سنة من الحكم إلى يقين بأن هناك إرادة عليا تختار الرئيس، وأنه ينتظر الوحى من السماء ليقرر اسم خليفته.
المعانى الثلاثة تدور كلها حول حقيقة واحدة: إلغاء السياسة.
الرئيس بدا فى هذه الكلمات العابرة، أقرب إلى توضيح عقلية النظام كله.
هكذا فإن الكلام عن «القدر الإلهى» ورغم كل الكلام الفخيم عن الديمقراطية أو الدعوة إلى الصناديق.. هو إيمان دفين أو مداعبة لتصورات التربية الاستبدادية بأن الرئيس مبعوث للعناية الإلهية، وليس مجرد موظف عند الشعب يرحل حين يفشل.. إنها عودة إلى أن الحاكم: نصف إله، والخروج عليه أو الاختلاف نوع من الكفر الواضح والصريح، بقوانين الاختيار الإلهى.
الله اختار لنا الرئيس مبارك، وعلينا أن نرضى بقدر الله، وسيختار لنا خليفته، وعلينا أيضا أن نرضى به.
هذا هو الإيمان الحقيقى الذى يجعل الرئيس «قوة عليا» مقدسة، وليس مجرد شخص يختاره الشعب، ويمكن أن يغيره.
وهذا ما يجعل الدولة فى مصر تعيش تحت الوصاية.
هكذا كانوا يعتبرون المرسى هو المرشح الإلهى، ورأوا فيه رسولا، وزاره الأنبياء كلهم فى المنامات المصنوعة خصيصا من فرقة الفقهاء التى تكرر كلماتها مع كل حاكم سواء كان ملكا أو رئيسا.. جنرالا أو إخوانيا.. مبارك أو المرسى.. كلهم محاطون بنفس الفرق تقول نفس الخزعبلات.. وتضع على رأس الحاكم تلك الهالة التى تجعله يدوس الجميع باعتباره «كلمة الله على الأرض».
كل طرف له فقيه أو فقهاء يخرجون على الناس بخطاب هو نفسه، وينتهى بأن الله مع الذى نحن معه وضد من ضدنا. الله يبرر القتل عندما يكون القاتل فى الصف الذى يقف فيه الشيخ أو الفقيه، بينما يصبح القاتل مجرما آثما.. يحل عليه حد الحرابة.
هذه الخرافات كبلت حياتنا السياسية أكثر من ٤٠ عاما.. أو أكثر من اللحظة التى تصور فيها سيد قطب أنه سيكون نبيا جديدا يكتب خطة السير إلى مملكة الله على الأرض.. رحلة لا بد أن تمر ببحيرات الدماء.
ومثل كل الواهمين بأنهم الفرقة الناجية التى تقتل باسم إقامة مملكة الله، وقعنا مع الإخوان فى الفخ، وضد فتواهم بأن «الله معهم» تدرب فقهاء المؤسسات الرسمية على ترسيخ فكرة أن «الله مع الحاكم ملكا أو رئيسا».
وكما كان كل طرف فى حروب الفتنة يرفع اسم الله، أو المصحف، فإننا نرى الفقهاء والمشايخ يهرولون بين منصات تمجد فرقتهم أو سلطتهم بخطاب مطلق يصلح للاستخدام المتعدد، لكنه يهدف فى النهاية إلى تعجيز البشر، أو إخضاعهم لقبول الفعل السياسى على أنه أمر إلهى، أو قضاء وقدر، فيهتف السلفى يوم تنحى مبارك «الله وحده أسقط النظام»، كأن الشعب الذى خرج لم يفعل شيئا، وهذا ليس تعبدا أو محبة فى الله، ولكن استكمال لفكرة أقدم بأنه لا خروج على الحاكم، لأن حكمه إرادة إلهية. هتاف السلفى ليس إيمانا، لكن استمرار فى تعطيل إرادة الشعب أو الركوب عليها أو سرقتها كما حدث بعد ذلك. وهنا كيف يمكن تفسير إسقاط الشعب للمرسى، مشروع الرئيس المؤمن؟
سيردون على طريقة الفهلوى الذى نجا من حريق فقال «النار لا تحرق مؤمنا» وعندما أصيب فى الحريق التالى كان رده جاهزا أيضا: «المؤمن منصاب».
هذه الفهلوة هى أحد أعمدة تلبيس السلطة لتكون مثل «القدر الإلهى».
إلى متى سأعيد هذا المقال؟ لنقول للمرشح أو للرئيس.. ترشح أو ترأس، لكن الله لا يختار الرؤساء.. الشعب يختارهم.. ثم يصحح اختياره بإسقاطهم.