كانت أم كلثوم تعرف متى تعيد «الكوبليه» مثنى وثلاث ورباع، وفى نفس الوقت كانت تعلم تماما اللحظة التى تتوقف فيها عن الخامسة، مهما استمعت إلى من يقول لها «أعد يا ست». تترك جمهورها فى الذروة ومذاق المرة الأخيرة لا يزال حاضرا وساخنا فى آذان ووجدان مستمعيها.
نصيحة لم يأخذ بها المرشح السابق للرئاسة حمدين صباحى، رغم أنه أساسا لم يقدم أنغاما سياسية شجية أراد منه أحد أن يستعيدها، ولكنه فى ظل حسبة سياسية معقدة من المستحيل تكرارها مرة أخرى، أخذ نسبة كبيرة من الأصوات واحتل المركز الثالث بعد مرسى وشفيق، ورغم ذلك فهو لا يزال يناور ويحكى ويكرر المقرر، ولم يُرِح نفسه ويعلن انسحابه من المعركة الرئاسية التى لا يلوح له فيها أى بصيص من أمل. الكل يعلم أنه سيفعلها وينسحب قريبا وكل تصريحاته وأحاديثه تمهد لذلك، ولكن تخونه الفروق فى التوقيت، هو الآن لم يعد يشكل رقما فى المعادلة على كرسى الرئاسة، وأقصى ما ينتظره، أو فى الحقيقة ما يحلم به هو أن يحصل على قضمة من التورتة فى الزمن القادم، ولكنى لا أتصور أن حتى هذا الهدف من السهل تحقيقه، لأن قوته تتضاءل مع مرور الزمن، بينما هو مشغول بتكرار نفس الكوبليه.
إنه يقف منتظرا على الباب لو لم يترشح السيسى فيتقدم هو خطوة للأمام، هل من الممكن أن يثق المصريون فى مرشح لا يثق حتى فى نفسه؟ فهو فى واقع الأمر منسحب إلا إذا، لا يوجد فى الدنيا قائد ينتظر فى بير السلم حتى يخلو الجو فيتقدم إلى مقدمة الصف. لقد خذلته جبهة الإنقاذ وقبل أن يتقدم السيسى للترشح رشحت السيسى، حتى صديقه المقرب خالد يوسف قال إن صوته للسيسى «إلا إذا»، هكذا بات اسم حمدين الحركى الأستاذ «إلا إذا».
لو كان الأمر بيدى، وفى ظل كل الأسماء المرشحة والمحتملة لقلت إن صوتى وبلا أى جدال أو نقاش للمستشار عدلى منصور مرشحى الأول للرئاسة. قاد الرجل سفينة الوطن بحنكة ولم يبهره كرسى الرئيس الذى جاء إليه بحكم الدستور، ليصبح رئيسا مؤقتا فى القصر، ولكنه دائم فى القلوب. رجل قليل الكلام، حاضر البديهة، متقد الذهن، زاهد فى السلطة، لا يغفل برغم هموم الوطن أن يكرم الفنانين ويمنحهم أوسمة الجمهورية، ويتذكر أن لدينا مخرجا وهو محمد خان تجاوز السبعين ولم يحصل على الجنسية، 30 عاما مع مبارك وعام مع مرسى، ولم يتحرك أحد، وكتبت الصحافة والتقطها الرجل، ثم يعلن بلا مواربة أنه لن يستمر على المقعد، لأن مواصفات الرئيس القادم كما يراها هو لا تنطبق عليه. كثيرون غيرى يقولون له أعد نريدك معنا أربع سنوات أخرى، ولكنه وجدها أيضا لحظة مناسبة لا يعيد فيها الكوبليه، يغادر المسرح والناس تسأله المزيد.
عمرو موسى أنجز الدستور بقيادته الحكيمة للجنة الخمسين، ووصلت مكانته إلى الذروة عند المصريين، كان قد مُنى فى 2012 بخسارة فادحة عند ترشحه لمقعد الرئيس، ولم يتجاوز مجموع ما حصل عليه سوى 10% من أصوات الناخبين، وهى نسبة لم يتوقعها حتى ألد أعدائه. هزيمة كانت من الممكن أن تؤدى بأحد غيره إلى الانزواء بعيدا عن الصورة، ولكنه قرر أن لا تُصبح هذه هى القفلة التى ينهى بها حياته السياسية التى دامت 50 عاما، منذ زمن عبد الناصر مرورا بالسادات ووصولا إلى مبارك. تحمل الصدمة وفى لحظات أعلن أنه سيظل يخدم مصر فى أى موقع، وكانت لجنة الخمسين، هى فرصته الأخيرة للعودة إلى قلب الصورة، وأحرز هدفا عزيز المنال أعاده مرة أخرى إلى زمن غنى له شعبولا «أكره إسرائيل وباحب عمرو موسى» وكان حصيفا فلم يسمح حتى لشعبان بالغناء له. أسهُم عمرو موسى ارتفعت والبعض طالبه بأن يجدد التطلع لكرسى الرئاسة، إلا أنه اكتفى بهذا القدر وبتلك القفلة الحراقة، فلم يُعِد الكوبليه. هذه هى قواعد اللعبة السياسية، وتلك هى الحصافة التى ينبغى أن يتحلى بها من يعترك السياسة التى لا تعرف «إلا إذا»!!