عاد فى الوقت الذى تكلّمت فيه صحف القاهرة عن فتح التحقيق فى ظهور الأطباق الطائرة فى الغردقة.
ظهر خارجًا من وسط الخرافات بصوته مصحوبًا بصورة تمنحه بُعدًا خرافيًّا، لا يحتاج إلى ماكياج ليبدو معه خارجًا من بحيرة السحرة أو قادمًا من العالم الغامض المثير والمرعب فى منطقة خارج إدراكنا المحدود.
عاد حسين سالم من عالمه، القديم، الغامض، فى حركة ضد الزمن، كما نتخيله أحيانًا يتقدّم، ومع زمن دائرى، يصنع متاهات، تلقى مع كل دورة كائنًا من كائناتها يتسلّى به المتصارعون والمتنباذون على أى رعب أكثر رعبًا.
ومَن المرعوب أكثر؟
مَن الذى يحق له باسم رعبه أن يسود اللحظة ويسيطر.
يحمل حسين سالم مبادرة العودة إلى مصر، مقابل نصف ثروته، وهى مبادرات من المفروض أن لها قواعد قانونية، وتحكمها إرادة سياسية لا تقع الفخ فى المفاضلة بين العدالة (التى تعنى فى المقام الأول أن لا تتكرر الجرائم) وبين الاستفادة من الأموال المنهوبة.
المريب هنا أن حسين سالم سمّاها مبادرة، والمتهم يحاكم ولا يبادر، ومن المفروض أن جهات التحقيق أو المؤسسات الرسمية، هى صاحبة المبادرات، أما أن تظهر فى التليفزيونات وتتحدث إلى المذيعين فإنك تقدّم إعلانًا ودعاية.
ثم ما قيمة نصف الثروة، تلك التى احتارت الأمم من القاهرة إلى سويسرا مرورًا بأمريكا وإسبانيا فى تعدادها، أو تصوّرها نهائيًّا، بل إن المحاكمات العابرة للحدود لم تكشف ما لدى الرجل الذى ظلّ غامضًا حتى بعد تهدّم المعبد الذى اختفى فيه طويلًَا.
مثل الساحرات الشريرات يظهرن فى منتصف الحكاية ليتعلم الأطفال الفضيلة، بدا ظهور حسين سالم نذير عودة ميت، مستحيلة، لكنها تبدو درسًا فى تربية الشعوب، أرادت الجهات التى سمحت أو اتفقت مع حسين سالم على الظهور أن ترسخه فى الأذهان.. درس بأن هناك شخصيات أقوى من التغيير، يمكنها أن تظهر وتحوّل جريمتها إلى «فعل وطنى» كما وصف متحدث الحكومة مبادرة نصف الثروة. ورغم أن التنازل اعتراف بالجريمة، فإن المتحدث استخدم كرمه ليصفه بأنه «رجل أعمال شريف».. وإذا كان الشرف (والطيبة أيضًا) نسبيًّا، عند متحدث الحكومة، فإن رجل الأعمال لا تنطبق على حسين سالم الذى كانت تتعطل من أجله الأعمال.
وكما كتبت من قبل ولمن نسى أو لم يعرف أساسًا.. حسين سالم أول هارب بعد جمعة الغضب 28 فبراير 2011.
التقط فى الهواء رائحة أخرى غير التى تعوّدها طيلة 30 سنة، فحمل عائلته وحقائب (قيل فى الروايات الخرافية وقتها أن بها مليارًا ونصف مليار دولار..) وسافر بطائرته الخاصة إلى دبى، وفى رواية أخرى كندا.. لكنه عندما ظهر للعلن كان فى إسبانيا، حيث يحمل جنسيتها.. لماذا كان أول الهاربين؟ وكيف ترى الآن أعماله فى بلدان المافيا الجديدة، مثل رومانيا وبلغاريا؟ الأسئلة ستطارد مَن يريد إخفاءها.
هو أقدم محمية سياسية وأكثر الشخصيات غموضًا فى سنوات حكم مبارك.
لم يكن من الممكن لفترات طويلة أن يذكر اسمه مباشرة، كان يشار إليه بـ«صديق الرئيس» أو «الرجل الغامض».. تربّى فى مؤسسات تجمع السلطة والانضباط والسرية. تكونت محميته فى الخفاء «بعيدًا عن الأضواء» إلى حد كبير. لعب فى البزنس على استحياء، لأن الجمع بين السلطة والبزنس كان ضد القانون وضد أعراف الدولة الشفافة. لكن مع وصول مبارك إلى الحكم تفككت الحواجز بالتدريج بين السلطة والبزنس. بدأت برجل فى الظل يعمل باسم الرئيس فى السلطة. وهذه كانت لحظة ولادة المحميات السياسية. النظام يريد أن يقول للعالم إنه ودّع الاشتراكية بغير رجعة وإنه يفتح الأبواب أمام القطاع الخاص. وفى نفس الوقت لا يريد أن تنفلت الثروة بعيدًا عن سيطرته. وتقرر أن تتم التقسيمة على «أهل ثقة» من اختيار النظام. هؤلاء كانوا الجيل الأول من الديناصورات الذين كبروا وسمنوا فى رعاية «الدولة» وتحت جناحها. لم يشكّلوا طبقة رأسمالية وطنية تنمو وينمو بها اقتصاد الدولة. لكنهم ظلوا فى حدود مزرعة الديناصورات التى تديرها الدولة بالكامل. تضخّمت الثروات بقوة الصاروخ. وتحرك الاقتصاد بسرعة السلحفاة. الهدف لم يكن النمو بل توزيع الثروة بشكل يضمن سيطرة النظام عليها. ورجال الأعمال الذين وصلوا إلى المليار لم يصلوها لأنهم بنوا بنية صناعية حقيقية لكن لأنهم دخلوا فى إطار محمياته.
من هذه التصورات وبالعمل فى الظل عاش سنوات طويلة على أنه «ملك شرم الشيخ»، بناها بشعور المحتكر الأول، حتى اتسعت وفكت الدولة وظلها فى البزنس قبضتها قليلًا لتسمح بدخول آخرين. واضطر حسين سالم إلى القبول بمشاركة الآخرين «دولته» التى بناها بثقة الجهات العليا. الثقة الممنوحة لحسين سالم كانت كفيلة بصنع مليارات ودخوله قوائم الأساطير.
من أين عاد ملك شرم الشيخ الأسطورة حسين سالم؟
■ ■ ■
جزء من حكاية منشورة ضمن «حكايات القاهرة» صفحتى الأسبوعية فى صحيفة «السفير» اللبنانية.